تدخل الحرب الروسية الأوكرانية شهرها الثامن عشر، دونما حسم واضح في اتجاه أحد الطرفين، أو حتى سيطرة استراتيجية أو عملياتية من أحدهما، تقربه من فرض موقفه على طاولة المفاوضات، الأمر الذي يُشير إلى أن الصراع قد يستمر لعدة أشهر أخرى على أقل تقدير قبل أن يتجه الطرفين إلى التهدئة، الوضع ذاته في غزة التي تدخل الحرب فيها شهرها الثامن -كأحد أطول الحروب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي رُبما باستثناء حربي تأسيس إسرائيل، والاستنزاف مع مصر- دونما اقتراب من أي حسم، أو حتى أفق يشير إلى أن طرفي الحرب على وشك الذهاب إلى التهدئة أو حتى أن أحدهما أو كلاهما بات راغب فيها، قد يكتمل عقد الحروب المُمتدة إذا اشتعلت الحرب بين الصين مع أحد جيرانها سواء في مضيق تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي بات غير مُستبعد في ظل انخراط الولايات المُتحدة في مُناوشات سياسية واقتصادية إقليمية ودولية تستهدف المصالح الصينية مُباشرة.
تجمع الحربين القائمتين وتلك المُتوقعة، خصيصتين -بالإضافة إلى أنها استغرقت أو قد تستغرق وقتًا أطول في الحسم مما كان متوقعًا- أولهما أنها تدور في مناطق ذات أهمية استراتيجية فائقة للعالم، سواء في السهل الأوروبي العظيم أحد أخصب أقاليم العالم وأغزر مناطق انتاج الحبوب فيه، أو في قلب الشرق الأوسط عند مُفترق طُرق التجارة العالمية ومسارات الطاقة. ثم أنهما أخيرًا لا تدوران بين دول أو أطراف مُنفردة، بل ضمن تحالفات أوسع، حيث ينخرط في الحرب الروسية الأوكرانية بشكل غير مُباشر كُلا من كوريا الشمالية وإيران إلى جانب روسيا، وحلف شمال الأطلسي إلى جانب أوكرانيا، فيما انخرط في حرب غزة إلى جانب إسرائيل كُلًا من الولايات المُتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإلى جانب حماس إيران، حزب الله، الحوثيين، وعدد كبير من الجماعات الشيعية في العراق وسوريا.
هاتين الخصيصتين طبعتا الحربين الجاريتين بخصائص تُشبه جُزئيًا وبشكل مُصغر خصائص الحربين العالميتين الأولى والثانية من حيث كثافة الاستهلاك النيراني وما يُصاحبه من كثافة الوفيات بين الأطراف المُتصارعة، أو من حيث طول خطوط الاشتباك، وبالتالي باتت الحربين تستهلكان كميات هائلة من الذخائر والأسلحة التقليدية وخصوصًا دانات المدافع، حتى استنزفت أو كادت مخزونات القوى المُنخرطة في الصراع، وبالتالي بات الإحلال محلها حتميًا، ما أوصل حرارة المعارك الدائرة إلى خطوط الإنتاج في المصانع، التي -في أغلب الأوقات- كانت غير قادرة على الوفاء باحتياجات الجبهة أو أغراض إعادة استيفاء المخزون، ما أسفر في النهاية عن نُدرة شديدة في الذخائر على كل الجبهات لدى كُل الأطراف.
حولت هذه النُدرة الحرب إلى سلسلة من المعارك الصناعية يتفوق فيها الطرف ذا القُدرة الصناعية الأكبر، حيث يكون قادر على إمداد قواته بمزيد من الذخيرة التي تعطيها اليد الأعلى في المعركة، وبالتالي تحولت الصناعة بشكل مُباشر إلى أحد مُقومات الأمن القومي بمعناه شديد الضيق، لذلك تُحلل هذه الورقة انعكاسات القُدرة الصناعية على الحرب الروسية الأوكرانية من خلال سلاح المدفعية لدى الطرفين.