سوريا… ماذا بعد؟
البرامج البحثية
10 ديسمبر 2024

سوريا… ماذا بعد؟

شهدت سوريا حربًا أهليةً ضارية كشفت عن أنيابها منذ عام 2011 بين كل من النظام السوري الذي يدعمه إيران وروسيا وحزب الله وميليشيات شيعية أخرى، وقوات المعارضة التي حظيت بدعم أساسي من تركيا والولايات المتحدة واستمرت تلك الحرب حتى عام 2017. وفي ديسمبر 2024، نجحت المعارضة السورية في الإطاحة بالنظام السوري معلنةً نهاية حكم عائلة الأسد الذي استمر قرابة خمسة عقود. ورغم هذه التطورات، مازال مستقبل سوريا معقدًا ومحفوفًا بالتحديات، حيث تعاني البلاد من دمار شبه كامل، مع غياب جيش وطني، ووقوع الملايين من المواطنين تحت وطأة الفقر، في حين لجأ ما يقرب من 10 ملايين شخص إلى دول مثل تركيا وأوروبا ومصر ولبنان، وغيرها.   ويعد تشكيل حكومة انتقالية القاسم المشترك بين جميع الأطراف باعتباره التحدي الأكثر إلحاحًا عقب سقوط النظام. ورغم غياب أطر زمنية واضحة لتحديد مدة المرحلة الانتقالية، فإن المهمة الأساسية لهذه الحكومة ستكون إعداد البلاد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وإعادة بناء الجيش الوطني، وحل الميليشيات المسلحة، واستعادة السيادة على المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية؛ وهي مجموعة كردية تدعمها الولايات المتحدة. ليس ذلك فحسب، بل وأيضًا ستتولى الحكومة الانتقالية تحقيق المصالحة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، لا سيما بين الطائفتين السنية والعلوية، اللتين خاضتا صراعات دموية على مدى أكثر من عقد. وهذا ما سيتطلب تحقيق توازن دقيق يشمل تمثيل مختلف الفصائل ذات الأيديولوجيات والطموحات المتباينة.   لا شك أن إشراك جميع الأطراف المعنية يعد أمرًا حاسمًا لضمان الشرعية الواسعة للحكومة الجديدة، بما في ذلك ممثلو المعارضة السورية والمجتمع المدني، وربما بعض العناصر التي تنتمي للنظام السابق ممن لم يتورطوا في جرائم ضد المدنيين. وعلى كل حال ستستلزم هذه العملية تقديم تنازلات جسيمة وترتيبات لتقاسم السلطة وهو ما قد يثير خلافات خاصةً مع بعض الجماعات المسلحة المؤثرة التي قد تسعى لتحقيق خططها على حساب الأولويات الوطنية للحكومة المقبلة. سيُطلب من الحكومة الجديدة بناء نظام إداري فعّال يضمن تقديم خدمات عالية الجودة للمواطنين، تشمل قطاعات حيوية كالتعليم والمياه والكهرباء والخدمات الصحية. كما تمثل قضية إعادة اللاجئين من الدول المستضيفة تحديًا آخر للحكومة الجديدة، حيث أن الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين، ولا سيما المقيمين في أوروبا، لن يوافقوا على العودة إلى سوريا إلا في حال تحقيق الاستقرار الكامل في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، يبقى التصدي للمشكلات الاقتصادية المتجذرة والتي تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب، مثل الفساد والبطالة، ضرورة أساسية لتحقيق استقرار مستدام على المدى الطويل.   تمثل عملية إعادة إعمار المدن المدمرة مثل حلب وحماة وحمص، تحديًا بالغ التعقيد أمام الحكومة الجديدة. فقد أسفرت الحرب عن دمار واسع النطاق طال المنازل والمدارس والمستشفيات والخدمات الأساسية، مما يجعل من إعادة الإعمار مشروعًا يتطلب موارد مالية ضخمة وخبرات تقنية متقدمة، وكلاهما قد يكون نادرًا في الوقت الراهن. حتى الآن، أعرب الاتحاد الأوروبي عن استعداده للمشاركة في مساعدة سوريا على إعادة إعمار مدنها المدمرة، سعيًا لخلق بيئة آمنة تُشجع اللاجئين على العودة إلى سوريا، وبالتالي تخفيف العبء الثقيل الذي أثقل كاهل السياسات الأوروبية لأكثر من عقد. من المتوقع أيضًا أن تشارك تركيا، التي تعد الداعم العسكري الرئيسي للجماعات المسلحة المعارضة، في جهود إعادة الإعمار، بهدف تعزيز نفوذها داخل الدولة الهشة. كما يُتوقع أن تسهم العديد من الدول العربية، مثل قطر والإمارات والكويت والسعودية، في عملية إعادة الإعمار، لتحقيق مكاسب اقتصادية ولضمان استمرار نفوذها السياسي في سوريا.   ستظل قضية المساءلة واحدة من القضايا الأكثر تعقيدًا، فقد عانى الشعب السوري معاناة شديدة، ويتطلع الكثيرون إلى رؤية المسؤولين عن الفظائع التي ارتُكبت خلال سنوات يُحاسبون على أفعالهم. ومع ذلك، فإن السعي لتحقيق العدالة دون التسبب في مزيد من الانقسامات والصراعات سيمثل مهمة شديدة الحساسية والتعقيد. يمكن أن يكون إنشاء لجنة لتقصي الحقائق والمصالحة خيارًا محتملًا لمعالجة هذه القضية، لكن نجاح هذا النهج يعتمد على تصميم دقيق وشامل يأخذ بعين الاعتبار تلبية احتياجات الضحايا والجناة على حد سواء وضمان عدالة متوازنة.   سيظل دور الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية حاسمًا إزاء تشكيل مستقبل سوريا، إذ أدّت دول مثل روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة أدوارًا محورية في الصراع السوري. ومع ذلك، فقد تضعف سطوة هذه الأطراف، لا سيما إيران وروسيا، في مرحلة ما بعد سقوط النظام. ورغم ذلك، قد يظل لدورها أهمية استراتيجية، نظرًا إلى قدرتها على التأثير في مجتمعات داخل سوريا. فعلى سبيل المثال، تحتفظ روسيا بنفوذ ملحوظ على الأكراد، في حين تتمتع إيران بإمكانية التأثير في الطائفتين العلوية والشيعية في البلاد، بيد أن تباين المصالح وتضارب الأجندات الكبرى للقوى الأجنبية قد يمثل عقبة أمام الجهود الرامية إلى إعادة بناء الدولة السورية، وقد يفضي هذا التضارب إلى تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي، ما يفرض تحديات إضافية على تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار على المدى الطويل.   يشكّل العدوان الإسرائيلي المستمر عبر "الخط ألفا" الذي يفصل مرتفعات الجولان المحتلة عن سوريا، تهديدًا إضافيًا يُثقل كاهل المشهد السياسي والأمني في البلاد، فقد نفذّت إسرائيل أمس سلسلة مكثفة من الغارات الجوية، تجاوزت مئة ضربة استهدفت مواقع مدنية وعسكرية، في خطوة واضحة تهدف إلى تقويض قدرة الحكومة الجديدة المرتقبة على أداء وظائفها الأساسية. ورغم التساؤلات بشأن نية إسرائيل بالانسحاب إلى ما وراء "الخط ألفا"، يظل هذا العدوان تحديًا استراتيجيًا بالغًا للحكومة المقبلة، التي ستواجه ضغوطًا هائلة للرد على الاعتداءات الإسرائيلية، في ظل غياب الوسائل العسكرية اللازمة لتحقيق توازن الردع أو مواجهة الهيمنة الإسرائيلية المستمرة.   تعتمد قدرة الحكومة الانتقالية الجديدة على التصدي للتحديات المذكورة آنفًا على ركيزتين أساسيتين هما: بناء جيش وطني جديد وتحقيق مصالحة شاملة بين الفصائل المجتمعية، كما ستظل السيطرة على دور الميليشيات المسلحة من أصعب المهام التي تواجه أي حكومة ناشئة، لا سيما في ظل تصاعد نفوذ الإسلاميين بقيادة "هيئة تحرير الشام"، التي قادت الهجوم الأخير الذي أطاح بنظام الأسد. وعلى النقيض، عملت تركيا على تجهيز "الجيش الوطني السوري" للاضطلاع بدور محوري في مرحلة ما بعد الأسد، وقد يمثل التعاون بين هذين الفصيلين الرئيسيين خطوة أساسية للحفاظ على السلام وتعزيز استقرار الحكومة الانتقالية، ما يساعدها على ردع التحديات، غير أن أي مواجهة بين هذين الفصيلين قد تُفضي إلى تمزيق البلاد.   ختامًا، يعتمد مستقبل سوريا على قدرة الحكومة الانتقالية على تعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة بناء البنية التحتية الحيوية، وإدارة التعقيدات الدولية بكفاءة. ويتطلب تحقيق هذا الهدف تحقيق توازن دقيق بين المصالحة والعدالة، وإدارة فعّالة للتأثيرات الخارجية، وتشكيل جيش وطني موحّد يضمن الاستقرار على المدى الطويل.