انتقلت قضية تجنيد اليهود المتدينين (الحريديم) في الجيش الإسرائيلي إلى صدارة الأحداث مرة أخري، وخاصة بعد الدعوات التي أطلقها العلمانيون وتبناها عدد من وزراء مجلس الحرب على رأسهم وزير الدفاع يوآف غالانت في المؤتمر الصحفي الذي عقد 28 فبراير الماضي داعيًا إلى ضرورة إدخال تعديل على قانون التجنيد ليشمل الحريديم ، مشيراً إلى إن إسرائيل تواجه تحديات هائلة على رأسها نقص العمالة بسبب الحرب في غزة التي لم تحرز أي نصر يذكر حتي الآن، بالإضافة إلى التوترات في الحدود الشمالية مع حزب الله، مما أثار ضجة واسعة في المجتمع الحرديدي، حيث لوّح الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل يتسحاق يوسف باحتمال حدوث هجرة جماعية لليهود الحريديم من إسرائيل، إذا ما تم إجبارهم على التجنيد في صفوف الجيش الإسرائيلي.
تأتي هذه الدعوة لتلقي بظلالها على صراع قديم في المُجتمع الإسرائيلي لم يُحسم حتى يومنا هذا بسبب تنامي قوة الأحزاب الدينية والاعتبارات الانتخابية والحزبية لرؤساء الوزراء الإسرائيليين، وبسبب الحساسيات الاجتماعية داخل نسيج المجتمع الإسرائيلي، فلطالما كانت الإعفاءات السارية على الحريديم مصدرًا للخلاف مع المواطنين الأكثر ميلاً للعلمانية، وتسببت التعبئة المكلفة للحرب على غزة في إذكاء ذلك الخلاف وخاصة مع حصول أكثر من 66 ألف شاب حريدي على الإعفاء من الخدمة العسكرية خلال عام ٢٠٢٣ مما دفع الكثيرين نحو المطالبة بضم هذه الكتلة للخدمة العسكرية وخاصة في ظل تعدد الجبهات التي يواجهها الجيش الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر.
ومع عودة كتلة نتنياهو اليمينية إلى السلطة في أواخر عام 2022، كانت رغبة الأحزاب الحريدية في تحقيق نصر حاسم في المعركة ضد التجنيد الإلزامي بمثابة قوة دافعة أساسية لتعديلات نتنياهو لقانون السُلطة القضائية التي أطلق عليها في حينه “الإصلاح القضائي”، والتي واجهها المٍجتمع العلماني الإسرائيلي بتظاهرات عارمة أعاقت تنفيذها، ما يضع الوضع الداخلي الإسرائيلي برُمته في مهب الريح خصوصًا مع إلغاء المحكمة العليا تشريعًا في عام 2017 كانت الحكومة تعتمد عليه في منع تجنيد الحريديم، ومنحت الحكومة تأجيلات عدة لتجنيدهم، كان آخرها التمديد الذي سينتهى في 31 مارس الجاري ، ما يطرح تساؤلاً هامًا مؤداه: هل سيُدفع نتنياهو لتجنيد الحريديم؟
يٌعرف عن الحريديم أنهم جماعة متشددة من اليهود المتدينين يحرصون على تطبيق الشريعة اليهودية بكافة تفاصيلها الدقيقة وطقوسها الدينية وقوانينها التوراتية في حياتهم اليومية، ويختلف اليهود “الحريديم” عن بقية اليهود في شدة التزامهم بمعايير دينية صارمة، تجعلهم فئة مُتميزة كُليًا عن مجموع السُكان الإسرائيليين العلمانيين الذين يُشكلون النسبة الأكبر من المُجتمع اليهودي، فيما يتجاوز عدد الحريديم 1.3 مليون شخص، وتعتبر الحريديم الفئة الأعلى نموًا في عدد السُكان بين فئات المُجتمع الإسرائيلي حيث بلغت نسبة النمو السكاني لها 4% فيما تبلغ النسبة العامة بين الإسرائيليين 2.3%.
الأمر الذي يجعل قضية تجنيد الحريديم أحد القضايا المتفجرة بشكل دائم في السياسة الإسرائيلية، ويمكن أن يكون لحلها آثار حاسمة على مستقبل الجيش الإسرائيلي، والقضاء، والوضع الراهن للعلاقة بين الجماعات الدينية والدولة، حيث يتمتع الرجال الحريديم بإعفاء فعلي من الخدمة الإلزامية في الجيش أو الخدمة غير العسكرية التي ينطبق قانونًا على جميع المواطنين من خلال ترتيب يرجع إلى تأسيس الكيان عام 1948 حينما أبرم رئيس الوزراء آنذاك ديفيد بن غوريون اتفاقاً مع زعماء الطائفة الحريدية لإعفاء من كانت وظيفتهم بدوام كامل دراسة التوراة من الخدمة العسكرية الإلزامية، وأصبح هذا الترتيب معروفًا لاحقًا باسم “توراتو أومانوتو” (Torato Umanuto)، أي “التوراة هي مهنته”، ولم يتم تنفيذه من خلال التشريع، بل من خلال لائحة وزارة الدفاع، وتسمح هذه الآلية للرجال الحريديم “بتأجيل” خدمتهم في الجيش من خلال الدراسة في المدرسة الدينية من سن 18 عامًا حتى بلوغهم سنًا محددًا لا ينطبق فيه التجنيد.
وفي عهد حكومة رئيس الوزراء مناحيم بيغن عام 1977، أزال الكنيست أيضًا الحد الأقصى لعدد الإعفاءات بموجب توراتو أومانوتو، وقد أدى هذا الوضع الراهن المتمثل في عدم خدمة الحريديم في الجيش مع الاعتماد على الدعم الحكومي غير المتناسب إلى استياء كبير بين اليهود غير الحريديم، وهو ما أدى بدوره إلى تفاقم التهميش الاجتماعي والاقتصادي للطائفة الحريدية وارتفاع معدلات البطالة.
أنشأ رئيس الوزراء إيهود باراك لجنة برئاسة قاضي المحكمة العليا تسفي تال لإيجاد حل قانوني عملي للسماح باستمرار إعفاء الذكور الحريديم من التجنيد، وبناء على توصيات اللجنة، أقر الكنيست ما يسمى ب قانون تال في يوليو 2002، كإجراء مؤقت سمح لطلاب المدارس الدينية المتفرغين بتأجيل تجنيدهم في الجيش حتى سن 23 عامًا، وبعد ذلك يمكنهم اختيار المشاركة في فترة قصيرة مدتها 16 شهرًا من الخدمة في الجيش، أو أداء سنة من الخدمة الوطنية المدنية، أو مواصلة الدراسة بدوام كامل في المدرسة الدينية، ويهدف هذا الترتيب إلى تمهيد الطريق لانضمام الرجال الحريديم إلى القوى العاملة في وقت مبكر وتشجيع التجنيد الإجباري بين الحريديم، ومع ذلك، فشل قانون تال في تغيير نموذج المجتمع الحريدي للدراسة الدينية المطولة، حيث استمر التزامهم الأيديولوجي القوي بالتعليم الديني ومعارضة الخدمة العسكرية، كما ثبت أن الحوافز المقدمة إلى الحريديم لاختيار الخدمة بدلاً من مواصلة دراساتهم الدينية كانت متواضعة للغاية، ونظراً لأن قانون تال في الواقع لا يؤدي إلا إلى إدامة عدم المساواة، فقد قضت المحكمة العليا في فبراير 2012 بأنه غير دستوري لانتهاكه القانون الأساسي، وألغت التشريع اعتباراً من أغسطس من ذلك العام.
وفي مارس 2014، نجح الائتلاف الحاكم آنذاك في تمرير تشريع يطلب من الجيش الإسرائيلي تجنيد نسبة من الرجال الحريديم في سن التجنيد والتي تتزايد كل عام، وإذا لم يتم استيفاء حصة 60% بحلول عام 2017، سيُطلب من جميع الرجال الحريديم المؤهلين الالتحاق بالخدمة العسكرية، وسيواجهون عقوبات جنائية في حال تخلفهم أو رفضهم.
ومع تشكيل حكومة نتنياهو في مايو 2015 عادت الأحزاب الحريدية مرة أخري إلى السلطة، و أصدرت تشريعاً يعدل قانون 2014 من خلال إلغاء العقوبات الجنائية بالكامل وإبطاء فرض الحصص حتى عام 2020.
وفي سبتمبر 2017 ألغت المحكمة العليا قانون عام 2014 لإدامة عدم المساواة بين اليهود الحريديم وغير الحريديم، ومنحت المحكمة الحكومة سنة واحدة لتمرير قانون جديد يتناول التجنيد الحريدي، مع استمرار وزير الدفاع في إصدار التأجيلات للرجال الحريديم، ومع استمرار الأزمة السياسية التي عانتها حكومة نتنياهو والتي أدت إلى سقوطها في أواخر عام 2018 أصدرت المحكمة تمديدات مستمرة تمنع التجنيد التلقائي للرجال الحريديم.
يتمتع اليهود الحريديم منذ فترة طويلة بإعفاءات من الخدمة العسكرية، ويحتجون أو يرفضون أوامر التجنيد ويسعون إلى تكريس الإعفاء في القانون. ويرى الكثيرون في العالم “الحريدي” أن الخدمة العسكرية والاندماج الأوسع مع العالم العلماني يشكلان تهديداً لهويتهم الدينية واستمرارية تقاليد المجتمع المعزول كما يحصل طلاب المدارس الدينية “الحريدية” على رواتب مدفوعة من الدولة للدراسة، في إطار القانون الذي يسمح لهم بالحصول على تأجيلات سنوية للخدمة العسكرية حتى بلوغهم سن الإعفاء.
ويرى الحريديم في أنفسهم أنهم مكرسين للتعلم الديني والخدمة الروحية، حيث تعتبر القيم الدينية والتزامات الحريديم المتعلقة بالتعليم والعبادة من العوامل التي تجعل بعضهم يرفضون الخدمة العسكرية، ويطالب اليهود المتشددون بالحق في الدراسة بالمعاهد اللاهوتية بدلاً من الخدمة في الجيش، في إشارة إلى إن نمط حياتهم المتدين قد يصطدم بالأعراف والتقاليد العسكرية ، كما يتمتع الحريديم بثقافة مختلفة وأسلوب حياة مميز، تتضمن هذه الاختلافات الملابس الدينية والتغذية الخاصة وإمكانية الاحتفاظ بالتعلم الديني والتزاماتهم الدينية الأخرى خلال فترة الخدمة العسكرية.
كما أن تجنيد عدد كبير من الحريديم يتطلب تخصيص موارد إضافية للتدريب والإدارة والدعم المالي يجب توافرها لهم، كما يستغل الحريديم وجود أحزاب سياسية تؤيد إعفاء الحريديم من التجنيد، وتحاول الحفاظ على هذا الاستثناء للحفاظ على استقرار التحالفات السياسية، وهو ما يزيد من التعقيدات في حال تنفيذ قرار تجنيد الحريديم.
على مدى سنوات طويلة، كانت الطائفة الحريدية معفاة من التجنيد العسكري بناءً على الأمر الواقع، بينما كان باقي المجتمع اليهودي الإسرائيلي ملزماً بالخدمة العسكرية، وقد تسبب هذا التمييز في انقسامات سياسية في إسرائيل، وقد أثارت الاصلاحات القضائية التي اتخذتها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، بما في ذلك إعفاء الحريديم من التجنيد العسكري قلقًا كبيرًا بين الجمهور غير الحريدي في إسرائيل، وتسببت في تفاقم الانقسامات، وهو ما ينذر بتفاقم الغضب والقلق بين الإسرائيليين غير الحريديم ويهدد مستقبل البلاد.
حيث تري العديد من الأحزاب الدينية أن الحل يكمن في التوصل إلى تسوية بشأن مشروع الحريديم يكون محصنًا من التدقيق القضائي، مما يقلل من اعتماد الأحزاب الحريدية على الإصلاح القضائي، وهو ما يلقي بظلاله على ما إذا كان السياسيون الإسرائيليون قادرون على بناء توافق حول هذه القضية وما إذا كانت هذه المقايضة تستطيع معالجة الانقسامات العميقة في المجتمع الإسرائيلي، حيث تظل هذه القضية محورًا للجدل في السياسة الإسرائيلية وتحظى باهتمام كبير من الجمهور والمجتمع الدولي.
ختاماً يتبيّن من السياق التاريخي أن القضية المتعلقة بتجنيد ودمج الحريديم في الجيش تستدعي اتخاذ قرار يُلزم هؤلاء الأفراد بأداء الخدمة العسكرية، وذلك من خلال توازن يحقق تطلعاتهم الروحية ويضمن مساهمتهم الأمنية. هذا القرار يتطلب وجود حكومة قوية، تتمتع بقاعدة اجتماعية وسياسية واسعة، تكون مستقلة عن تأثير أصوات الحريديم وغير مبالية من تفاعلهم والآثار الداخلية لاتخاذ هذا القرار.
على الرغم من الأزمة غير المسبوقة التي تعاني منها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي أدت إلى انخراطها في حرب تعتبر الأطول في تاريخها، وعلى الرغم من التحديات التي يفرضها هذا الصراع، فإن نتنياهو لا يزال متمسكًا بتحالفه مع الأطراف المتدينة، ما يعيقه عن اتخاذ قرار بإعفاء هؤلاء الأفراد من الخدمة العسكرية، حيث سبق أن ساهمت الأحزاب المتشددة والأحزاب المنتمية إلى اليمين المتطرف في تشكيل نتنياهو لحكومة بأغلبية برلمانية، ولكن هذه الأحزاب جعلت الإعفاء من التجنيد شرطًا للبقاء في الائتلاف. وبالتالي، فإن حاجة نتنياهو إلى تأمين أغلبية لائتلافه الحالي والاعتماد على الأحزاب الدينية تكبحه، خاصة في ضوء تغير ترتيب أولوياته التي أصبح من ضمنها الهروب من المساءلة القضائية والحفاظ على سمعته الشخصية.
جيريمي شارون، إيمانويل فابيان. (2024). “غالانت يقول إنه لن يقدم مشروع قانون يعالج قضية تجنيد الحريديم دون دعم الوسط، مما يهدد بأزمة ائتلافية.” تايمز أوف إسرائيل.29 فبراير 2024 .
سعيد عموري. (2024). “حاخام إسرائيل: إذا أجبرنا على التجنيد العسكري سنسافر للخارج.”. وكالة الأناضول،10 مارس 2024
سكاي نيوز عربية (2024). “إسرائيل.. قانون التجنيد يغضب ‘الحريديم’ ويهدد نتنياهو”. سكاي نيوز عربية، 29 فبراير 2024.
الشرق الأوسط (2024). “غانتس وآيزنكوت يضعان خطة لتوسيع التجنيد بما يشمل «الحريديم» والعرب.” الشرق الأوسط، 28 فبراير 2024.
الشرق (2023). “إسرائيل.. قانون الخدمة العسكرية يجدد الجدل بين اليهود الحريديم”، 4 يونيو 2023
Forum, Israel Policy. 2023. “The Haredi Exemption – Israel Policy Forum.” Israel Policy Forum. July 11, 2023. https://israelpolicyforum.org/2023/07/11/the-haredi-exemption
ميراف أرلوزوروف (2018). “عدم تجنيد الحريديم في الجيش بالمستوى المطلوب سيقود إسرائيل إلى إفلاس، 21 نوفمبر 2018.
مصطفي، مهند (2023). “سِجال الدين والسياسة في إسرائيل: قانون تجنيد المتدينين الحريديم في الجيش وتداعياته الداخلية”. مركزالامارات للسياسات، 31 أغسطس 2023.
سكاي نيوز عربية (2024). “نتنياهو يتحدث عن تجنيد ‘الحريديم’.. ويعد بحل الأزمة.”، 1 مارس 2024.
Byman, Daniel. 2024. “6 Lessons Israel Should Not Learn from the Oct. 7 Hamas Attack.” Foreign Policy, January 4, 2024. https://foreignpolicy.com/2024/01/04/6-lessons-israel-hamas-gaza-netanyahu-palestine
تعليقات