ساهم التقدم الذي أحرزته بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال وضع استراتيجيات العمل المناخي وتأكيد التزامها بالتحول الأخضر، في تنبيه المستثمرين إلى وجود سوق لتقنيات التخفيف والتكيف (adaptation and mitigation). ومع ذلك، في الوقت نفسه، تشكل أيضًا مخاطر المناخ المتزايدة في المنطقة عددًا من التهديدات على بيئة الاستثمار الأوسع، ما قد يعرض الخطط الاقتصادية الحالية والمستقبلية للخطر. وتشير التوقعات إلى ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة بمقدار ضعف متوسط المعدل العالمي واحتمال ارتفاعها بمقدار 4 درجات بحلول عام 2050، ما قد يجعل العديد من المدن غير صالحة للسكن . وخلال السنوات القليلة المقبلة، من المحتمل أن تواجه بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديًا يتمثل في الإدارة المتزامنة لتأثير الظروف المناخية القاسية وكذلك المخاطر المصاحبة للتحول نحو تطبيق سياسات خفض الانبعاثات والاستدامة، ومن هنا تثار عدد من التساؤلات الهامة، على رأسها: هل تبدو اقتصادات المنطقة مستعدة لمواجهة التأثير الذي قد تحدثه مخاطر المناخ على الاستثمارات والنمو؟ وماذا يمكن أن يعني هذا بالنسبة للاستثمارات اللازمة لدعم نمو التقنيات الجديدة من أجل التحول الأخضر؟
ثمة نوعان رئيسيان من مخاطر المناخ التي يتعين على الشركات والحكومات أخذها بعين الاعتبار، ألا وهما المخاطر المادية ومخاطر التحول(physical risks and transition risks) . تتسبب المخاطر المادية الناجمة عن الكوارث البيئية أو الظروف الجوية القاسية مثل موجات الحر والجفاف في الإضرار بالبنية التحتية والصحة. وينطوي ذلك على مجموعة واسعة من الآثار على الاقتصاد، على سبيل المثال قد يتطلب إتلاف أو فقدان رأس المال المادي إعادة توجيه الاستثمارات من مجال الابتكار إلى إعادة الإعمار، كما أن موجات الحر أو الأوبئة المرتبطة بالمناخ تقلل من إنتاجية العمل وتتسبب في تفاقم مظاهر التفاوت الاجتماعي وتتطلب زيادة الإنفاق العام، ما قد يؤدي بدوره إلى زيادة أعباء الديون. من ناحيةٍ أخرى، تنشأ مخاطر التحول من رحم التغييرات في السياسات أو القوانين الهادفة إلى معالجة أو تخفيف آثار تغير المناخ وحالة عدم اليقين بشأن الآثار المترتبة على هذه التغييرات. وتشمل هذه المخاطر، على سبيل المثال، الخسائر الكبيرة في الإيرادات التي تواجهها الصناعات كثيفة الكربون نتيجةً لوضع سياسات خفض انبعاثات الكربون وفرض ضرائب الكربون، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المصدرة للوقود بسبب تغير أسعار الطاقة وتأثير التغيرات العالمية في سلوك المستهلك على العديد من الصناعات.
من أجل الحد من هذه المخاطر، يتعين على الحكومات، وكذلك الشركات، تحقيق المرونة في عدد من المجالات، بما في ذلك النظم الغذائية والأمن المائي والطاقة والبنية التحتية الحضرية والتمويل. ويمثل التخطيط المالي بالتحديد عنصرًا محوريًا، وبالتالي أساسيًا، للمرونة. وفي تقرير صادر عن المؤسسة البريطانية للاستثمار الدولى (British International Investment)حول “تأثير تغير المناخ على الاقتصادات الناشئة في عام 2022″، والذي أجرى دراسة على مديري الشركات والصناديق في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا، قال 68% ممن شملهم الاستطلاع أن تغير المناخ يؤثر حاليًا على أعمالهم بينما أعرب 72% منهم عن قلقهم إزاء احتمال تأثيره على قدرتهم على تنمية أعمالهم أو محافظهم الاستثمارية في العقد المقبل. وفيما يتعلق بمدى تأثر سلاسل القيمة بالأحداث المناخية المادية، والتي عانى منها 58% من شملهم الاستطلاع في عام 2022، جاءت الاستثمارات في المرتبة الثانية كأكثر المجالات اضطرابًا بعد أعمال التشغيل. نتيجةً لذلك، يقوم حاليًا عدد أكبر من الشركات (73%) بدمج مخاطر المناخ في استراتيجيتها وتخطيطها المالي من خلال عدد من التدابير، بما في ذلك تغيير إستراتيجيات الاستثمار، وتجنب أنواع معينة من الاستثمار (لا سيما تلك المنطوية على تأثير سلبي على الكوكب) وتغيير اختيارها لعمليات الاستحواذ وسحب الاستثمارات وتصفيتها.
على الرغم من أن ذلك يمثل علامة إيجابية بشكل عام على التكيف، إلا أنه يعني أيضًا أن بعض الشركات والقطاعات معرضة لخطر فقدان الاستثمارات المستقبلية بسبب ضعف قدرتها على الاستمرار، ويعني ذلك أيضًا أن الإبلاغ والإفصاح عن المخاطر المتعلقة بالمناخ سيصبح، أو بالأحرى أصبح بالفعل، ضروريًا لتحقيق الجدارة المالية والمنافسة السوقية.
وفقًا للمعايير العالمية، تتخلف بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن الركب فيما يتعلق بعدد الشركات التي تُعِد تقارير الممارسات الاقتصادية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) والإفصاحات المالية. ومن أجل تحقيق الأهداف المناخية للحكومات، يلزم أيضًا اتخاذ إجراءات من جانب القطاع الخاص، فوفقًا لمسح أجرته شركة باين آند كومباني عام 2022، والذي شمل تقييم إجراءات الإفصاح والاستدامة لأكثر من 200 شركة عامة مدرجة وشركة خاصة في المنطقة، أعلنت 12% فقط من الشركات المشمولة في المسح عن طموحات خاصة بصافي الانبعاثات الصفرية بينما وضع 6% فقط خريطة طريق لمعالجة التغير المناخي. وعلى الرغم من اتخاذ بعض الشركات الكبرى في المنطقة إجراءات تهدف إلى الحد من الانبعاثات وزيادة مصادر الطاقة المتجددة وتوسيع نطاق التقنيات منخفضة الكربون، يشير الاتجاه العام إلى وجود فجوة بين الإجراءات المتعلقة بالمناخ في المنطقة ونظيرتها على المستوى العالمي.
مقارنة بالمناطق الأخرى، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبدو متأخرة عن الركب من حيث الشركات التي تمتثل لمشروع الكشف انبعاثات عن الكربون، والطموحات الخاصة بصافي الانبعاثات الصفرية، والأهداف التي تم تقييمها / الموافقة عليها من خلال مبادرة الأهداف القائمة على العلم.
في الوقت الحالي، تخطو دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطوات واسعة نحو تحقيق أهداف مناخية أكثر طموحًا وتبذل جهودًا حثيثة لجذب الاستثمارات في تلك المجالات من أجل الحفاظ على النمو الاقتصادي وزيادته. وتعهدت بعض الدول مثل لبنان ومصر والإمارات واليمن والمملكة العربية السعودية والبحرين بإزالة الكربون بحلول 2050-2060، وقدمت 5 دول على الأقل في المنطقة حتى الآن مساهماتها الوطنية المحددة، وتعمل دول الخليج بالفعل على تجاوز استخدام الطاقة الأحفورية نحو الاستثمار في الطاقة المتجددة وتحفيز النمو في القطاعات الأخرى. كما توفر هذه المبادرات فوائد عديدة للمنطقة، لا سيما بفضل تمتعها بإمكانات عالية كمركز للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومع ذلك، يشهد معدل الإنفاق العام الحالي والمقرر في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما في دول مجلس التعاون الخليجي، ارتفاعًا كبيرًا وفقًا للمعايير الدولية بما يفوق القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر. وتُظهر أيضًا الأبحاث التي أُجريت على توازن الميزانية في المنطقة خلال الفترة من 1990 حتى 2019 أن التغيرات في درجات الحرارة قد أثرت سلبًا على الميزانيات الحكومية وتسببت في زيادة الديون، وتشير التوقعات المناخية الحالية إلى أنه من المقرر زيادة معدل الدين العام بنسبة 16% خلال الفترة من 2060 حتى 2079 وحدوث مزيد من الانخفاض في الأرصدة المالية العمومية . وعلاوةً على ذلك، يحد الحضور البارز للمشروعات المملوكة للدول في مختلف القطاعات من جاذبية المنطقة للمستثمرين الخارجيين الذين ستحتاجهم الحكومات لضمان الاستدامة المالية.
وفيما يتعلق بالاستثمار في تكنولوجيا المناخ على وجه التحديد، هناك أيضًا العديد من العوائق التي تحول دون نمو الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة، بما في ذلك عوائق وضع القوانين والسياسات، وارتفاع تكلفة الإدارة المعقدة، والمخاوف بشأن الاستقرار الجيوسياسي ومخاطر الاقتصاد الكلي، ونقص الدعم اللازم لبدء الاستثمارات. وعلى الرغم من أن مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لديهم العديد من البرامج الخاصة والعامة اللازمة لدعم الشركات الناشئة، فإنها لم تفِ بعد بكامل الاحتياجات المحددة للشركات الناشئة المعنية بتكنولوجيا المناخ. ورغم ذلك فإن النظام البيئي للشركات الناشئة آخذ في التغير بسرعة، وبدأت تظهر شركات رأس المال الاستثماري لسد الفجوات في الاستثمار. على سبيل المثال، أُسست في عام 2022 شركة إيت فينتشر إكس 8X Ventures التي تتخذ من دبي مقرًا لها في إطار خطط استثمارية بقيمة 20 مليون دولار من أجل استثمارها في الشركات الناشئة المعنية بتكنولوجيا المناخ والتكنولوجيا النظيفة في المنطقة. مع ذلك، يجب أن تتكيف البيئات القانونية والتنظيمية بسرعة من أجل دعم هذا النمو ومواكبة المعايير العالمية.
خلاصة القول إنه في حين بذلت الحكومات في المنطقة جهودًا واسعة لوضع قضية تغير المناخ على قائمة الأولويات الوطنية بهدف خلق بيئة أكثر تمكينًا لنمو الصناعات والشركات المرتبطة بالمناخ، إلا أنه لا يزال ثمة حاجة ماسة إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الرامية إلى الحد من مخاطر تغير المناخ المهددة للاقتصاد. يعني ذلك ضرورة ممارسة الضغط من أجل وضع معايير عالمية للإبلاغ عن مخاطر المناخ، وكذلك دمج هذه المخاطر في استراتيجيات الاستثمار الوطنية والخاصة. ويتعين أيضًا على قادة الأعمال في المنطقة توضيح المخاطر المادية ومخاطر التحول التي قد تؤثر على أعمالهم وسلاسل الإمداد وسلوك المستهلكين، على سبيل المثال لا الحصر، ودمج هذه الاعتبارات في خططهم الإستراتيجية والمالية. وأخيرًا، يجب أن تتعاون الحكومات والشركات مع بعضها البعض لتحديد الأولويات الخاصة بكلٍ من التخفيف والتكيف بهدف التمكن من مجابهة الصدمات المفاجئة.
تعليقات