من المعروف أن الصين تستخدم قوتها الاقتصادية للتغلغل في الدول النامية، خاصةً الدول التي تعاني من صدمات اقتصادية، من خلال تقديم قروض غير مشروطة وزيادة استثماراتها في البنية التحتية. علاوة على ذلك، تتجنَّب الصين مخاطر الاستثمار في البلدان الهشة أو البلدان التي مزقتها الحروب الأهلية؛ لأنها قد لا تُمَثِّل بيئة آمنة للاستثمارات طويلة الأجل. وفي ليبيا، حافظت الصين على نفس السياسة، وتجنَّبت الاضطلاع بدور حاسم في التأثير على نتائج النزاع الليبي. ولكن الصين فضَّلت الحفاظ على علاقة قوية مع الأطراف المحلية المختلفة المنخرطة في هذا النزاع؛ للحفاظ على مصالحها، ولضمان وجود دور اقتصادي لها في مستقبل البلاد. وسيتناول هذا التحليل الدور الصيني في ليبيا وآفاقه المستقبلية.
سعت الصين إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع نظام الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي والمعارضة الثورية إبان الثورة. ويُعزى ذلك إلى إدراك الصين أن ديناميّات النزاعات القبلية دائمًا ما تكون معقدة وعادةً ما تستمر لفترة طويلة. ومن خلال تحقيق التوازن في علاقاتها مع كلا الطرفين، خطَّت الصين خطوةً نحو حقبة ما بعد الحرب، مهيأةً نفسها للتعامل مع أيٍ من الطرفين. فبعد أشهر من تأسيسها، تواصلت الصين مع المعارضة الليبية، ممثلةً في المجلس الوطني الانتقالي، وسرعان ما طوَّرت علاقة عمل قوية مع زعماء المعارضة. وفي يونيو 2011، عقدت الصين اجتماعها الأول مع رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي محمود جبريل. وفي الشهر التالي، زار وفد صيني مقر المجلس الوطني الانتقالي في مدينة بنغازي (شرقي ليبيا).
ورغم تنامي العلاقات مع المجلس الوطني الانتقالي، واصلت الصين الاحتفاظ بعلاقاتها الدبلوماسية مع نظام القذافي. ولكن، في يوليو 2011، ظهرت تقارير تتهم الصين بتسليح قوات القذافي سرًا، منتهكةً بذلك عقوبات الأمم المتحدة. ورغم نفي الصين هذه الادعاءات، أعرب المجلس الوطني الانتقالي عن عدم ثقته في نوايا الصين، وشكَّك في مصداقيتها كشريك. وحرصًا منها على سمعتها ومصالحها الاقتصادية، تجنَّبت الصين اتخاذ موقف متحيز بالكامل. وبدلًا من ذلك، استغلت الصين نفوذها الاقتصادي وانخراطها المحدود في النزاع للحفاظ على موقف محايد.
اتّسم موقف الحكومة الصينية إزاء الثورة الليبية في عام 2011 بالحياد. ففي الوقت الذي امتنعت فيه الصين عن تأييد التدخُّل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا، إلا أنها أعربت عن قلقها حيال الأزمة الإنسانية الناجمة عن استمرار القتال وحدّته. وكان بوسع الصين أن تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة الذي فوَّض حلف الناتو بالتدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بنظام القذافي. ولكن الصين امتنعت عن التصويت للأسباب التالية.
أولًا، سعت الصين إلى حماية مصالحها الاقتصادية في ليبيا، من خلال عدم تأييد العمليات العسكرية التي قادها حلف الناتو ضد نظام القذافي. فقد كان النفوذ الاقتصادي الصيني في ليبيا قبل عام 2011 قويًا؛ إذ كان هناك أكثر من 75 شركة تعمل في مشروعات تُقَدَّر قيمتها بحوالي 18.8 مليار دولار. وقد وظَّفت هذه المشروعات أكثر من 30 ألف عامل صيني يعملون في قطاعات مختلفة مثل البناء، والاتصالات، والطاقة الكهرومائية. كما استوردت الصين 3% من احتياجاتها الوطنية من النفط من ليبيا؛ الأمر الذي يجعل الأخيرة ذات أهمية اقتصادية بالنسبة للصين. وعندما اندلعت ثورة 2011، واجهت الصين وضعًا صعبًا، حيث اعتبرت تدخُّل الناتو تهديدًا لمصالحها الاقتصادية. وازداد الوضع تعقيدًا بدعم جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي لتدخُّل الناتو عسكريًا. وقد دفع ذلك الصين إلى عدم استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الذي فوَّض حلف الناتو بالتدخُّل في ليبيا، محاولةً عدم اتخاذ موقف ضد حالة الإجماع داخل الوطن العربي. وكما هو مُوَضَّح في الرسوم البيانية التالية، تبنَّت الصين موقفًا رسميًا محايدًا في التصويت على القضايا الليبية.
ثانيًا، حاولت الصين تعزيز صورتها كلاعب عالمي مسؤول، من خلال انتقاد الأزمة الإنسانية التي نشأت بسبب الحرب. وكان استخدام الفيتو ضد تدخُّل الناتو ليُعَد دعمًا صينيًا لنظام القذافي، وهو ما كان ليؤدي إلى تآكل أدوات القوة الناعمة الصينية في منطقة الشرق الأوسط.
ثالثًا، كان قرار الصين بمعارضة التدخُّل الذي قاده حلف الناتو في ليبيا مدفوعًا أيضًا بمخاوفها بشأن رفضها مبدأ “المسؤولية عن الحماية” الذي يسمح للقوى العالمية بالتدخُّل في الدول ذات السيادة لمنع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ولطالما أعربت الصين عن رغبتها في غزو تايوان وضمَّها؛ الأمر الذي قد يدفع المجتمع الدولي إلى استخدام مبدأ “المسؤولية عن الحماية” للتدخُّل ضد الصين دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إن وقائع التدخُّل العالمي في العراق في عام 2003 دون موافقة مجلس الأمن حاضرةً دائمًا في أذهان الصينيين أثناء التعامل مع الحالات المماثلة في العالم.
رابعًا، كانت الصين مهتمة للغاية بإفساح المجال لحلف الناتو للتورط في نزاعات جديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في محاولة لاستنزاف قوته. كما اعتقد الصينيون أن الناتو سيضرب المدنيين عن طريق الخطأ أو عن عمد؛ ما سيزيد من غضب السكان العرب ضد الغرب، وسيعطي الصين أيضًا مساحة أكبر لانتقاد الغرب.
في أواخر عام 2015، تم توقيع الاتفاق السياسي الليبي، الذي أسفر عن إنشاء حكومة الوفاق الوطني باعتبارها السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة في البلاد. كما حدَّد الاتفاق مجلس النواب المتمركز في مدينة طبرق (شرقي ليبيا) باعتباره السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد. وفي حين كان من المفترض أن تحل حكومة الوفاق الوطني الميليشيات، وتنشئ جيشًا وطنيًا، وتوحد البلاد بأكملها تحت قيادة منتخبة حديثًا، إلا أنها فشلت في تحقيق ذلك؛ ما أدى إلى تكرار النزاع بين القوات المتمركزة في الشرق (المدعومة من مجلس النواب) والقوات المتمركزة في الغرب (المدعومة من حكومة الوفاق الوطني). بدأت المرحلة الأكثر حدة وتورطًا دوليًا في 4 أبريل 2019، عندما شن قائد “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر هجومًا مباغتًا على حكومة الوفاق الوطني في مدينة طرابلس (غربي ليبيا). ومنذ ذلك الحين، تدخلت قوى أجنبية مثل تركيا وروسيا بشكل مباشر في النزاع بدلًا من دعم وكلائها؛ ما أدى إلى تعقيد النزاع.
لقد دعمت الصين رسميًا حكومة الوفاق الوطني، وأجرت محادثات دبلوماسية مع مسؤولي حكومة الوفاق الوطني عدة مرات. فبين عامي 2016 و2020، التقى دبلوماسيون صينيون بممثلي حكومة الوفاق الوطني عدة مرات، وتُوِّجَت هذه اللقاءات باجتماع مهم في منتصف عام 2018. وخلال هذا الاجتماع، شارك وزير الخارجية في حكومة الوفاق الوطني محمد طه سيالة في الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى “التعاون الصيني الإفريقي” في الصين، وأجرى مناقشات مع عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي. ونتيجة لهذه المناقشات، تم التوقيع على مذكرة تفاهم تؤكد الالتزام بالتعاون في تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق” الصينية في ليبيا.
تُمَثِّل مبادرة “الحزام والطريق” مكونًا رئيسيًا من مكونات السياسة الخارجية الصينية؛ إذ تستخدمها الصين للاضطلاع بدور أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي، من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول التي قررت الانضمام إلى هذه المبادرة. وتقدم الصين أيضًا حوافز مالية لدول مبادرة “الحزام والطريق” مثل القروض والهبات غير المشروطة لمساعدتها على تطوير بنيتها التحتية. كما أراد الصينيون أن يكون لهم نصيب في بناء ليبيا، خاصةً وأن معظم المدن قد دُمِّرَت بسبب النزاع، في محاولة لضم ليبيا إلى مبادرة “الحزام والطريق”.
رحبت حكومة الوفاق الوطني كذلك بعودة الشركات الصينية إلى ليبيا في عام 2018. وبحلول العام التالي، بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 6.2 مليار دولار، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انتعاش صادرات النفط الليبية إلى الصين. وبالنسبة للصينيين، كانت حكومة الوفاق الوطني حليفًا موثوقًا به، حيث اعترفت الأمم المتحدة بشرعيتها. علاوة على ذلك، استولت حكومة الوفاق الوطني على المنطقة الغربية من ليبيا، حيث يوجد مصرف ليبيا المركزي، الذي يصرف عائدات النفط والغاز على الفصائل الليبية المختلفة. كما تضم المنطقة الغربية المؤسسة الوطنية للنفط، وهي الجهة الوحيدة المخولة بتوقيع عقود تصدير النفط، وكل ذلك مرغوب فيه بالنسبة للصين للتقرب من أي شريك.
وبالمثل، وجَّهت الصين أنظارها إلى القوات المتمركزة في الشرق؛ لإدراكها أن هذا المعسكر قد ينتصر في هذه الحرب، طامحةً إلى عقد صفقات اقتصادية في المنطقة الشرقية. وقد وقَّعت شركات مملوكة للدولة الصينية صفقات اقتصادية مع الحكومة المتمركزة في الشرق في عام 2016 لتمويل مشروعات تنموية في شرق ليبيا؛ ما يعكس ميل الصين إلى تعزيز أعمالها مع طرفي النزاع الرئيسيَيْن في الأزمة. وقدمت الصين الدعم العسكري لحفتر من خلال وسطاء؛ ما دفع المجتمع الدولي لاحقًا إلى انتقادها. فعلى سبيل المثال، اتهمت كندا أيضًا الصين بإبرام صفقة بقيمة مليار دولار لتزويد حفتر بـ42 طائرة بدون طيار (مُسَيَّرة) أثناء تفشي جائحة كورونا (كوفيد-19)، منتهكةً بذلك قرار الأمم المتحدة رقم 1970 الذي فرض حظرًا على توريد الأسلحة إلى ليبيا.
تهتم الصين بشكل كبير باستقرار ليبيا، وتطمح إلى الاضطلاع بدور اقتصادي بارز في مستقبل البلاد. وقد دفع هذا الطموح الصين دائمًا إلى تبني موقف محايد يسمح لها بإقامة علاقات مع جميع الأطراف المنخرطة في النزاع. ويمكن تحليل الدور المستقبلي للصين في ليبيا من خلال ما يلي:
الحياد الملموس: ستواصل الصين الاضطلاع بدور محايد مع الحفاظ على علاقات دبلوماسية واقتصادية قوية مع طرفي النزاع في ليبيا. كما ستستخدم الصين علاقاتها الاقتصادية للحصول على المزيد من العقود لشركاتها، خاصةً في البنية التحتية، في محاولة لتعميق وجودها في البلاد. وقد يسمح الحفاظ على الحياد للصين باللعب على الجانبين، وبالتالي تعظيم منافعها وزيادة نفوذها تدريجيًا.
تعزيز الانخراط السياسي: بمرور الوقت، قد تسعى الصين إلى الاضطلاع بدور سياسي أكبر في ليبيا، من خلال التوسط بين القوات المتمركزة في الشرق والقوات المتمركزة في الغرب. ومن شأن النجاح في مساعدة أطراف النزاع على توقيع اتفاقية سلام، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، أن يعزز الموقف العالمي للصين كشريك موثوق به قادر على المساهمة في إنهاء النزاعات. وسيزيد ذلك أيضًا من اعتماد دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الصين، وقد يؤثر ذلك سلبًا على دور الولايات المتحدة الأمريكية تدريجيًا. لذلك، فإن الدور المتزايد للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد يدفع قوى عالمية مثل الولايات المتحدة إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الأطراف المحلية، في محاولة للحد من النفوذ الصيني.
وختامًا، يُسَلِّط تدخُّل الصين في ليبيا الضوء على استراتيجيتها المتمثلة في استخدام القوة الاقتصادية لتوسيع نفوذها في المناطق المضطربة. ومن خلال الحفاظ على الحياد أثناء النزاع، صانت الصين مصالحها أثناء تعاملها مع كلٍ من حكومة الوفاق الوطني وقوات شرق ليبيا. ويتيح هذا الوضع للصين قيادة جهود إعادة الإعمار من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، مع التركيز على مشروعات البنية التحتية والطاقة الحيوية. وبالنظر إلى المستقبل، تهدف الصين إلى العمل كوسيط دبلوماسي، وتعزيز الاستقرار، وتأمين موارد الطاقة. ومن خلال تشجيع الحوار بين الفصائل الليبية، فإنها تعزز قوتها الناعمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع استقرار ليبيا، يمكن لنهج الصين متعدد الأوجه أن يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي والعلاقات الجيوسياسية؛ ما يرسخ دورها كلاعب رئيسي في شمال إفريقيا.
Wehrey, Frederic, and Sandy Alkoutami. “China’s Balancing Act in Libya.” Carnegie Endowment for International Peace. Carnegie Endowment for International Peace, May 20, 2020. Accessed September 30, 2024. https://carnegieendowment.org/posts/2020/05/chinas-balancing-act-in-libya?lang=en
Kington, Tom. “Chinese COVID Aid Talks With Libyans Called a Plot to Smuggle Drones.” Defense News, September 27, 2024. Accessed 30 Septmber 2024. https://www.defensenews.com/global/europe/2024/09/27/chinese-covid-aid-to-libya-is-labeled-a-plot-for-smuggling-war-drones/
Nyabiage, Jevans. “China Makes Moves to Reopen Economic Ties With Libya, 13 Years After Suspending Trade.” South China Morning Post, June 23, 2024. Accessed 29 September 2024 https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3267487/china-makes-moves-reopen-economic-ties-libya-13-years-after-suspending-trade
Emad, Mohamed. “China Re-establishes Economic Ties With Libya.” Libya Review, June 24, 2024. Accessed 29 September 2024. https://libyareview.com/45408/china-re-establishes-economic-ties-with-libya/
Chaziza, Mordechai. “China’s Libya Policy and the BRI: Sights Set on the Future.” Middle East Institute, December 22, 2020. Accessed 1 October 2024. https://www.mei.edu/publications/chinas-libya-policy-and-bri-sights-set-future
تعليقات