يواجه العالم واحدة من أسوأ أزمات الديون منذ عقود، فقد تسبب اضطراب سلاسل الإمداد العالمية الناجمة عن جائحة كورونا، والذي نتج عنه نقص في العديد من السلع وارتفاع ملحوظ في الأسعار، ما تسبب في زيادة الضغوط على موازين المدفوعات الدولية، الأمر الذي يدفع في اتجاه أزمة ديون متنامية، ولا شك في أن الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا قد فاقم من حدة هذه الضغوط التضخمية، كما أدت الإجراءات التي اتخذها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم الأمريكي إلى رفع قيمة الدولار إلى أعلى مستوياته منذ عشرين عامًا، ونتيجةً لذلك، تتحمل حاليًا الدول النامية ديونًا أكثر تكلفة نتيجة لانخفاض قيمة عملاتها في مُقابل الدولار الذي اقترضته.
كانت مُحصلة ما سبق أن لجأت الدول إلى صندوق النقد الدولي للحصول على الدعم المالي مدفوعةً بكل هذه العوامل من أجل التصدي لأزمات الديون وعدم الاستقرار الاقتصادي، ولا يمنح صندوق النقد الدولي بدوره قروضًا كبيرة إلا في ضوء تبني الدولة حزمة من الإصلاحات الاقتصادية القاسية والصارمة، التي تدفع في اتجاه تعديلات هيكلية واسعة تُبني على مجموعة سياسات وشروط تقشفية، الأمر الذي عرض صندوق النقد الدولي لجملة من الانتقادات، أبرزها مسألة ما إذا كانت الدول التي تمر بأزمات تستفيد من برامجه بالفعل أو أنها تنعكس بصورة سلبية عليها، ومن هنا يهدف هذا التحليل لتقييم مدى نجاح سياسات صندوق النقد الدولي، عن طريق دراسة أمثلة للدول التي قامت بتطبيق لسياساته من أجل الوقوف علي جدوى هذه السياسات وأسباب نجاحها من عدمه.
تأسس صندوق النقد الدولي عام 1944 من أجل تعزيز التعاون النقدي الدولي وتسهيل التجارة الدولية وتعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار المالي العالمي، فحينما تواجه أي دولة من الدول الأعضاء عجز في ميزان المدفوعات، يمكنها طلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي، وعادةً ما يُقدم صندوق النقد الدولي قروضاً للدول التي توافق على تنفيذ سياسات وإصلاحات اقتصادية محددة تهدف إلى معالجة الأسباب الكامنة وراء الأزمة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
وتشير سياسات صندوق النقد الدولي إلى الخُطط والبرامج الاقتصادية التي يوصي بها الصندوق الدول الأعضاء فيه، وتهدف هذه السياسات إلى تعزيز التعاون النقدي الدولي وتسهيل التجارة الدولية وتشجيع النمو الاقتصادي والحد من الفقر، وعادة ما يمنح صندوق النقد الدولي المساعدة المالية للدول التي تعاني من صعوبات اقتصادية، مثل ارتفاع معدلات التضخم أو وجود مشاكل في ميزان المدفوعات أو التعامل مع الديون غير المستدامة، في مقابل تنفيذ إصلاحات اقتصادية تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز النمو المستدام .
حسب ظروف كل دولة، قد يوصي صندوق النقد الدولي بإتخاذ إجراءات سياسية معينة مختلفة، على الرغم من أنها تندرج عمومًا تحت واحدة من ثلاث فئات وهي: سياسات الاقتصاد الكلي، أو الإصلاحات الهيكلية، أو الإصلاحات المؤسسية، وغالبًا ما تُضمّن إجراءات معالجة الاختلالات المالية والنقدية في سياسات الاقتصاد الكلي، مثل خفض الإنفاق الحكومي، وزيادة الضرائب، ورفع الدعم عن الوقود والمواد الغذائية، وتشديد السياسة النقدية لكبح جماح التضخم، وتتمثل أهداف هذه الإجراءات في استعادة استقرار الاقتصاد الكلي وضمان عدم إنفاق الدولة أكثر مما تستطيع تحمله، كما تعتبر بعض الإجراءات مثل تخفيف القيود على الصناعة وتحرير التجارة وتعزيز مناخ الأعمال، أمثلة على الإصلاحات الهيكلية التي تسعى إلى زيادة كفاءة الاقتصاد وقدرته التنافسية. وتهدف هذه الإجراءات إلى تشجيع النمو طويل الأجل وتعزيز قدرة الدولة على المنافسة في الأسواق الدولية .
من ناحيةٍ أخرى، تشير الإصلاحات المؤسسية إلى الإجراءات المتخذة لتعزيز الحوكمة والشفافية في مؤسسات الدولة، مثل تعزيز سيادة القانون، وتعزيز الإدارة المالية العامة، والحد من الفساد، كما تسعى هذه الإجراءات إلى دفع النمو الاقتصادي المستدام وتعزيز الجودة العامة للحوكمة .
يشهد تاريخ الصندوق بنجاح سياساته في مساعدة بعض الدول على تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز النمو، إلا أن هذه السياسات تعرضت أيضًا للانتقاد بسبب تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية السلبية في عدد وافر من الحالات، إذ يرى منتقدوها أن تركيز الصندوق على التقشف المالي والإصلاحات الموجهة نحو اقتصاد السوق قد أدى في كثير من الأحيان إلى حدوث اضطرابات اجتماعية وزيادة الفقر والانكماش الاقتصادي في بعض الدول .
كما حصدت الشروط المتعلقة بالقروض التي يقدمها الصندوق أكبر قدر من الانتقادات، ومع ذلك، يجادل مؤيدوه بأن هذه السياسات ساعدت على تحقيق استقرار الاقتصادات وخفض معدلات التضخم وتحفيز النمو الاقتصادي في عدد من البلدان النامية، كما يرون أن قروض صندوق النقد الدولي وتوصياته المتعلقة بالسياسات قد ساعدت، في بعض الحالات، الحكومات على منع الكوارث الاقتصادية والحد من الفقر، وتدور العديد من الحُجج المناهضة للشروط المتعلقة بالقروض حول حقيقة أن السياسات الموصى بها من جانب الصندوق غالبًا ما تؤثر بشكل غير متناسب على الشرائح الأضعف في المجتمع، بينما يُفيد الطبقة الحاكمة وتعزز النشاط الاقتصادي في البلاد ظاهريًا .
ولفهم النقاش حول فعالية سياسات صندوق النقد الدولي بشكل أفضل، ينبغي علينا أن نأخذ في الاعتبار الدول التي استفادت من هذه السياسات، ومن المثير للاهتمام أن هناك العديد من الأمثلة على الدول التي نُفذت فيها سياسات صندوق النقد الدولي بنجاح وكذلك للدول التي انتُقدت فيها هذه السياسات، لذا يصعب تقديم إجابة محددة على السؤال حول عدد الدول التي استفادت من سياسات صندوق النقد الدولي. ومع ذلك، من المسلم به عمومًا أن فعالية سياسات صندوق النقد الدولي تعتمد على مجموعة من العوامل، بما في ذلك رغبة الحكومات وقدرتها على تنفيذ الإصلاحات، والسياسات المحددة الجاري تنفيذها، والسياق السياسي والاقتصادي الأوسع الذي تُنفذ فيه هذه السياسات.
في هذا الصدد تعد كوريا الجنوبية أحد أمثلة النجاح، فقد شهدت أزمة اقتصادية خطيرة في أواخر التسعينيات اتسمت بارتفاع مستويات الديون، والانخفاض الملحوظ في قيمة عملتها وفشل نظامها المصرفي، وفي مقابل تنفيذ عدد من الإجراءات السياسية، استجاب صندوق النقد الدولي بتقديم حزمة من المساعدات المالية لكوريا الجنوبية بإجمالي 58 مليار دولار، لتتمكن من تحقيق الاستقرار في اقتصادها وتحقيق نمو اقتصادي مطرد بفضل تنفيذ هذه الإجراءات السياسية ، وفي عام 2004، أصبحت كوريا الجنوبية أول دولة تسدد قروض صندوق النقد الدولي قبل الموعد المحدد.
وفي السياق الكوري جرى الاستشهاد بعدد من المتغيرات، بما في ذلك التزام الحكومة القوي بتحقيق الإصلاح، وتوافر القوى العاملة المثقفة والمُتخصصة في البلاد، والبيئة الاقتصادية العالمية الإيجابية، كأسباب للنجاح في تنفيذ إجراءات سياسة صندوق النقد الدولي. وبشكلٍ عام، توضح تجربة كوريا الجنوبية أن الظروف الصحيحة قد تجعل إجراءات سياسة صندوق النقد الدولي فعالة في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والنمو. وتعد كوريا الجنوبية اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا، وفي عام 2021، كانت واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، واحتلت المرتبة العاشرة من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي .
وعلي النقيض من هذا الاتجاه، هناك العديد من الدول التي تعرضت فيها سياسات صندوق النقد الدولي للانتقاد بسبب تأثيرها الاجتماعي والاقتصادي السلبي، وأبرز مثال على ذلك يتمثل في الأرجنتين التي شهدت أزمة اقتصادية حادة في عام 2018، اتسمت بارتفاع معدلات التضخم، والعجز المالي الضخم، والانخفاض الحاد في قيمة عملتها، واستجابةً لهذه الأزمة، تلقت الأرجنتين حزمة قروض بقيمة 57 مليار دولار من صندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ مجموعة متنوعة من الإجراءات الرامية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والحد من الاختلالات المالية، ورغم ذلك، كانت هناك معارضة اجتماعية وسياسية كبيرة في الأرجنتين فيما يتعلق بتنفيذ هذه السياسات حيث شعر قطاع كبير من السكان أنها غير مُنصفة، بل وتضر بالرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
وما لبث أن عانى الاقتصاد الأرجنتيني مرةً أخرى في عام 2019 من ذات أعراض الوهن الاقتصادي، وطلبت الحكومة من صندوق النقد الدولي تمديد اتفاقية القرض، إلا أن الأرجنتين تخلفت في نهاية المطاف عن سداد ديونها في مايو 2020 نتيجة تأجيل محادثات صندوق النقد الدولي معها، ومنذ ذلك الحين، عمل صندوق النقد الدولي والأرجنتين على إعادة التفاوض بشأن شروط اتفاقية القرض ومعالجة التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، ما أدى إلى توتر العلاقة بين الطرفين، حيث ألقى بعض الأرجنتينيين باللوم على الصندوق في مُجمل المشكلات الاقتصادية التي واجهتها بلادهم وطالبوا بمراجعة ترتيبات القرض .
لذلك، قد يتطلب هذا التفاوت بين نجاح سياسات صندوق النقد الدولي وفشلها تغيرًا عامًا في سياساته للمساعدة على تحقيق النمو الاقتصادي.
لا يستخدم صندوق النقد الدولي نفس السياسات في جميع الدول حيث تواجه كل دولة ظروفها وتحدياتها الاقتصادية الخاصة بها. ومع ذلك، يتبنى صندوق النقد الدولي مجموعة من الإجراءات الموحدة التي يوصي الدول الأعضاء باتباعها، والمعروفة باسم “الشروط”، والتي تهدف إلى معالجة بعض القضايا مثل التضخم والعجز المالي ومشاكل ميزان المدفوعات .
كما تختلف توصيات صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالسياسات التي تطبق على أي دولة نامية حسب عدد من المتغيرات، والتي تتمثل في الوضع الاقتصادي للدولة، ومدى حدة مشكلاتها وقضاياها، والبيئة السياسية والاجتماعية التي تعمل فيها، ومن أجل تطبيق سياسات تتناسب مع الظروف الخاصة للدولة، عادةً ما يتعاون الصندوق مع حكومة الدولة.
وعلى الرغم من أن الصندوق يدعي أنه يستخدم إجراءات سياسية مصممة حصرًا للظروف الخاصة بكل دولة، فإن هذا الادعاء ليس صحيحًا لأنه عادةً ما يستخدم “مطرقة واحدة لكل المسامير”، بحيث يُقدم برامج لا تعتد بالظروف الخاصة بكل دولة، بما يعني أنها غير مناسبة للظروف الاجتماعية أو الاقتصادية للدولة محل التطبيق، بل قد يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية بدلاً من حلها، لذلك، يتعين على صندوق النقد الدولي، قبل منح أي قرض، تقييم حالة الدولة بدقة لمعرفة الإصلاحات والإجراءات الاقتصادية اللازم تنفيذها لتتجاوز تحدياتها وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
علاوةً على ذلك، يجب أن يتمتع صندوق النقد الدولي بجدية أكبر فيما يتعلق بتنفيذ الإجراءات التي يشترطها لضمان عدم فشل الإصلاحات في الدولة المُقترضة من خلال تعزيز المُتابعة، بحيث تُحقق مصلحة جميع الأطراف سواء أكان صندوق النقد الدولي أو الدولة المقترضة، ومن ثم تحقق الدولة النمو الاقتصادي المنشود ويتمكن الصندوق من استرداد الأموال التي أقرضها مما سيسهم في تقديم المساعدة لعدد أكبر من الدول.
استنادا إلى ما سبق، يتعين على صندوق النقد الدولي إبداء استجابة أسرع للظروف الخاصة بكل دولة مقترضة للنظر في الآثار الاجتماعية والاقتصادية المحتملة لسياساته من خلال تقييم الإجراءات المخصصة لكل دولة والتشاور مع أصحاب المصلحة المعنيين في الدولة المقترضة.
تعليقات