أثارت القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الإجراءات الرامية إلى تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ردود فعل عنيفة على مستوى العالم. وعلى الرغم من أن خطوة خفض المساعدات الأمريكية تعود بآثارٍ ضخمة للغاية على المدى القريب، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن آثارها بعيدة المدى لأنها تعكس تحولًا أعمق في استراتيجية السياسة الخارجية لإدارة ترامب؛ ولكن ما هي التداعيات المترتبة على مثل هذه القرارات بالنسبة للولايات المتحدة وخصومها؟
على مدار عقودٍ من الزمن، استخدمت السياسة الخارجية الأمريكية المساعدات كأداة قوة ضد خصومها. وتعود فكرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أوائل الحرب الباردة عندما تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على النفوذ في الدول النامية ودول ما بعد الاستعمار. وكان الرئيس هاري ترومان قد حدد في خطاب تنصيبه في عام 1949 أربع أولويات للسياسة الخارجية للولايات المتحدة يتمثل آخرها في إطلاق “برنامج جديد وجريء لجعل فوائد التقدم العلمي والتقدم الصناعي متاحة لتحسين ونمو المناطق المتخلفة”. ومع ذلك، يبدوا أن ترامب يختلف في منظوره عن منظور أسلافه، حيث تعتبر إدارته المساعدات مجرد هبة من الولايات المتحدة إلى الدول الأخرى، متغافلةً حقيقة أن الولايات المتحدة نفسها هي واحدة من أكبر المستفيدين من دبلوماسية المساعدات الخارجية.
لا تُعد سياسة خفض المساعدات الخارجية وإعادة تخصيصها فكرة جديدة بالنسبة لترامب، فقد طرح في مقترح ميزانية ولايته الأولى الذي قدمه للكونجرس في عام 2018 خفضَ المساعدات بمقدار الثلث. وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام، برر ترامب هذا النهج في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلًا “من الآن فصاعدًا، لن نمنح المساعدات الخارجية إلا لأولئك الذين يحترموننا، وبصراحة، هم أصدقاؤنا”. وقد كان من حسن حظ الدول النامية ومصالح الولايات المتحدة أن الكونجرس عرقل تلك التخفيضات الجذرية وفرض قيودًا عليها، لكن لم تعد تلك القيود موجودة اليوم.
ويعكس نهج ترامب الجديد تحولًا في السياسة الخارجية الأميركية برمتها لأن تقليص المساعدات الخارجية، وفي بعض الحالات، إلغاؤها تمامًا ليس سوى جزء صغير من صورةٍ أكبر تحدد رؤية إدارة ترامب للعالم التي لم تعد تعطي الأولوية لدبلوماسية القوة الناعمة، ولكنها بدلًا من ذلك تنظر إلى القوة العسكرية والاقتصادية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لفرض الرؤية الأمريكية على العالم. وفي هذا السياق، لا تعد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بمعزلٍ عن تلك الرؤية الجديدة، ولكنها جزء من تحول أوسع في السياسة الخارجية الأمريكية والذي يتضمن على سبيل المثال لا الحصر الانسحاب من اتفاقية باريس، ورفض ما يسميه ترامب “المستفيدين بالمجان” في حلف الناتو، بالإضافة إلى الإحجام عن تحمل التكاليف الأمنية للدول الأوروبية التي تُعد أقرب حلفاء الولايات المتحدة تاريخيًا. وفي الواقع، يمثل هذا الاتجاه الجديد قطيعةً جذرية مع عقود طويلة من الدور المحوري للولايات المتحدة في الشؤون الدولية لصالح تبني موقف أكثر انعزالية.
ولا ينظر ترامب إلى الهيمنة الأميركية بالمعنى التقليدي الذي يتبناه منظرو العلاقات الدولية الذين يرون ضرورة الجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة لتكاملهما، بل إنه يرى أن القوة الصلبة كافية في حد ذاتها. ومن ناحيةٍ أخرى، تستغل جهات فاعلة عالمية أخرى مثل الصين تلك الفجوة وتعمل على تعزيز هيمنة نفوذها من خلال نهج يعتمد غالبًا على القوة الناعمة.
وتتمثل إحدى القضايا الرئيسية في أن السياسات التي تدعو إلى إنهاء المساعدات غالبًا ما تحظى بدعمٍ شعبي بسبب المفاهيم الخاطئة الشائعة حولها والتي يتعلق أبرزها بمكونات المساعدات الأمريكية والأسباب المتنوعة الكامنة وراءها. ويُعد مصطلح “المساعدات الخارجية” مصطلحًا شاملًا ويغطي العديد من الفئات المتنوعة التي تشمل المساعدات التنموية الثنائية، والمساعدات العسكرية، والمساعدات الإنسانية، والمساعدات الاستراتيجية، ومساعدات الأمن غير العسكرية (مثل مكافحة الإرهاب)، والمساعدات التنموية متعددة الأطراف. ويؤدي الفهم الخاطئ لتلك المساعدات إلى عدم إدراك الأميركيين للفوائد الملموسة التي تجلبها مختلف أشكال المساعدات للولايات المتحدة نفسها، ما يعزز الاستياء العام تجاه المساعدات الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد عدد كبير من الأمريكيين أن الولايات المتحدة تنفق على المساعدات الخارجية أكثر بكثير مما تنفقه بالفعل على مواطنيها، حيث تُظهر استطلاعات الرأي باستمرار أن الأمريكيين يُقدّرون أن المساعدات الخارجية تُشكّل حوالي 25٪ من الميزانية الفيدرالية، ويقترحون أنها يجب أن تنخفض إلى حوالي 10٪، بينما في الواقع، بلغت المساعدات الخارجية للسنة المالية 2019 39.2 مليار دولار، أي أنها أقل من 1٪ من الميزانية الفيدرالية.
برزت لمحة كاشفة عن أجندة ترامب للسياسة الخارجية في ولايته الثانية على لسان وزير خارجيته ماركو روبيو، حينما وصف في مقابلةٍ أجريت معه مؤخرًا لمدة ساعة، الأحاديةَ القطبية بأنها مجرد “حالة شاذة” وزعم أن التعددية القطبية يجب أن تكون القاعدة العالمية، مستشهدًا بالصين باعتبارها أحد الأقطاب الناشئة في النظام العالمي الجديد. وسواء كان روبيو يعتقد ذلك حقا أو كان ينسجم مع رؤية ترامب للعالم فحسب، إلا أن تصريحه مهم للغاية، ليس فقط في إعلان انتهاء عصر الأحادية القطبية الأميركية، بل أيضا في تأطير التعددية القطبية باعتبارها رمزًا لعودة الحياة إلى طبيعتها.
وتتماشى تلك الرؤية مع النمط الأوسع لعلاقات الولايات المتحدة المتوترة مع حلفائها التقليديين، مثل كندا والاتحاد الأوروبي، ما يعمق من عزلة الولايات المتحدة في نزاعاتها ويتحدى الفكرة التقليدية للنظام أحادي القطبية الذي تعمل فيه الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عالمية مدعومة من قوى غربية أخرى. وبدلًا من ذلك، يمهد هذا التحول الطريق لظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب، ما يفسح المجال للقوى العالمية المتوسطة مثل كندا والاتحاد الأوروبي للعمل كقوى موازنة بين الأقطاب العالمية المتنافسة.
لا تستطيع الولايات المتحدة تحمل تكاليف العودة إلى ميولها الانعزالية القديمة دون التضحية بقدرٍ كبير من نفوذها وسيطرتها على بعض الدول المتلقية للمساعدات؛ فعلى سبيل المثال، بعد أن حاولت حكومة هايتي، في عهد الرئيس جان برتران أريستيد، الذي عمل على رفع الحد الأدنى للأجور والحد من السيطرة الأجنبية على الصناعات الرئيسية، تم قطع المساعدات الأميركية وتعرضت البلاد لتحديات اقتصادية للضغط من أجل تغيير النظام. وفي نهاية المطاف، أُطيح بالرئيس أريستيد في عام 2004 في ظل ظروفٍ يقول كثيرون إنها تشكلت نتيجةً للتدخل الأجنبي.
وفي مختلف أنحاء أميركا اللاتينية، واجهت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية اتهاماتٍ بتمويل جماعاتٍ تعارض الحكومات اليسارية، الأمر الذي أدى فعليًا إلى تقويض عمليات صنع القرار السيادي في تلك الدول. وفي كثير من الحالات، وُجِّه الدعم المالي إلى جماعات المعارضة تحت ذريعة “تعزيز الديمقراطية”، ما أدى إلى تأجيج التوترات بين الولايات المتحدة والحكومات المحلية. وفي الواقع، تُبرز هذه الممارسات حقيقة أن المساعدات الإنمائية تتجاوز كونها مجرد عمل إنساني، فهي أداة سياسية بامتياز، وبالتالي تُجازف الإدارة الأمريكية الحالية بالتخلي عن ورقةٍ رابحة في سياستها الخارجية من خلال تقليص المساعدات الخارجية.
من يا تُرى سيستفيد من هذا التحول؟ من غير المرجح أن يظل هذا الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة شاغرًا، ويبدو أن الصين هي المرشح الأكثر ترجيحًا للتدخل وتعزيز مكاسبها، وهو ما يتوافق مع تصريحات ماركو روبيو حول ضرورة إنشاء عالم متعدد الأقطاب يُفسَح فيه المجال للقوى الأخرى لتوطيد نفوذها. ومن جانبها، ترى بكين في ذلك فرصة لانتزاع مكاسب جيوسياسية وتوسيع نفوذها على الساحة الدولية، وهو الدور الذي كانت تحتكره الولايات المتحدة إلى حدٍّ كبير في السابق.
وعلى سبيل المثال، تحرك البيت الأبيض بسرعةٍ لإنهاء أو تعليق المشاريع التي تدعمها الولايات المتحدة في بنجلاديش التي واجهت في أعقاب الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة في الصيف الماضي تحدياتٍ جسيمة تتمثل في الانهيار المؤسسي، واستشراء الفساد، ونقص الرقابة، ما أدى إلى حالةٍ من الفوضى في البنية التحتية ونظام الحكم. لذا، مع بلوغ بنجلاديش حافة الانهيار الاقتصادي، ستدفعها التخفيضات في التمويل إلى البحث عن مصادر بديلة لتوفير الدعم المالي.
كان من الممكن لبنجلاديش باعتبارها دولة كبيرة ذات موقع استراتيجي جيوسياسي أن تكون حليفًا قويًا للولايات المتحدة في مواجهة التوسع الصيني في المنطقة، لكن واشنطن بانسحابها من الساحة فتحت الباب على مصراعيه لبكين لتعزيز نفوذها وتعميق وجودها في المنطقة. وبالفعل، كثفت الصين استثماراتها في بنجلاديش من خلال مبادرة الحزام والطريق، وقدمت دعمًا مباشرًا للحكومة المؤقتة، لذا من غير المستغرب أن تتجه بنجلاديش نحو الصين ردًا على تجميد المساعدات الأميركية وأن تعمل بنشاطٍ على تعزيز علاقاتها الثنائية معها، وهو ما يشكّل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.
صحيح أن افتراض حلول الصين محل الولايات المتحدة كجهةٍ رئيسية مانحة للمساعدات قد يكون بمثابة تبسيط مفرط لهذا الطرح، إلا أن هذا التحول بات أكثر واقعية، فالمساعدات الصينية لا تقتصر على الدعم المالي فحسب، بل تشمل أيضًا الخبرة والتخطيط الاستراتيجي، فضلًا عن أن الصين باتت تتمتع اليوم بمكانةٍ أقوى من أي وقتٍ مضى لتعزيز نفوذها.
وفي المقابل، ستجد الدول المتلقية للمساعدات نفسها وقد تآكلت قوتها التفاوضية بشكلٍ ملحوظ؛ فمع سحب المساعدات الأمريكية، قد لا يكون أمام تلك الدول – التي كانت تُحسِن استغلال التنافس بين قوتين عظميين – خيارٌ سوى القبول بما يُملى عليها. وقد يُؤدي هذا إلى تعميق الاعتماد على المساعدات مع فقدان الدول قدرتها على التفاوض على شروطٍ أفضل؛ ففي الماضي، كان وجود مانحين متعددين يمنح الدول المُتلقية بعض المجال للمناورة، لكن مع تقلص الخيارات المتاحة، ستفقد تلك الدول استقلالها في صياغة اتفاقيات المساعدات على نحو متزايد.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى قرارات ترامب بمعزلٍ عن غيرها، بل باعتبارها خطوات مترابطة ضمن تحول أوسع في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فقد بات هذا التحول واضحًا بشكلٍ خاص عندما وصف روبيو الأحادية القطبية بأنها حالة شاذة، ما يشير إلى الابتعاد عن مفهوم الهيمنة الأمريكية التقليدية. وعلى الرغم من أن هذا التحول يُنظَر إليه في كثيرٍ من الأحيان على أنه تحول يخدم مصالح الولايات المتحدة، إلا أنه في نهاية المطاف يُضعف النفوذ الأميركي، ويُلحق الضرر بالدول التي تتلقى المساعدات، ولا يستفيد منه سوى خصوم الولايات المتحدة.
Council on Foreign Relations, “Bangladesh Could Turn to China as Trump Pulls Aid to the Country,” Council on Foreign Relations, https://www.cfr.org/article/bangladesh-could-turn-china-trump-pulls-aid-country
Council on Foreign Relations, “The Cost of the Trump Administration’s Foreign Aid Debacle,” Council on Foreign Relations, https://www.cfr.org/article/cost-trump-administrations-foreign-aid-debacle
Carnegie Endowment for International Peace, “USAID and Trump’s Foreign Aid Policy: Why It Matters,” Carnegie Endowment for International Peace, February 2025, https://carnegieendowment.org/emissary/2025/02/usaid-trump-foreign-aid-policy-why?lang=en
Drew DeSilver, “What the Data Says About U.S. Foreign Aid,” Pew Research Center, February 6, 2025, https://www.pewresearch.org/short-reads/2025/02/06/what-the-data-says-about-us-foreign-aid/
Kamilah Morain-Koyje, “Beyond Aid: Why It’s Time to Move on from USAID,” LinkedIn Pulse, January 2024, https://www.linkedin.com/pulse/beyond-aid-why-its-time-move-usaid-kamilah-morain-koyje/
تعليقات