في الرابع عشر من أغسطس، أعلنت منظمة الصحة العالمية رسميًا أن الارتفاع في حالات الإصابة بفيروس جدري القردة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والدول المجاورة يمثل حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا. يبرز هذا القرار التهديد الخطير الذي يمثله التفشي الحالي لمرض جدري القردة، مع تزايد المخاوف من احتمال تفاقم الفيروس وتحوله إلى أزمة صحية عالمية.
تعد هذه المرة الثانية التي يُصنَّف فيها مرض جدري القردة كحالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا من قبل منظمة الصحة العالمية، وذلك بعد تفشي المرض في عام 2022، والذي شهد انتشار الفيروس لأول مرة على نطاق واسع خارج المناطق الموبوءة به في وسط وغرب إفريقيا. أثار حدوث فاشيتين كبيرتين في غضون أربع سنوات فقط مخاوف عالمية، وخاصة في أعقاب جائحة كوفيد-19. ونتيجة لذلك، أصبح الكثيرون أكثر حذرًا تجاه احتمال تحول تفشي جدري القردة إلى جائحة جديدة.
مرض جدري القردة (إمبوكس) هو مرض فيروسي يسببه فيروس جدري القردة، والذي ينتمي إلى نفس العائلة الفيروسية المسببة للجدري. تم اكتشاف هذا الفيروس لأول مرة في القرود داخل أحد المختبرات في الدنمارك عام 1958، وهو ما يُفسر تسمية المرض جدري القردة.
يتسم مرض جدري القردة بأعراض تشمل الحمى، والصداع، وآلام العضلات، وظهور طفح جلدي مميز يمكن أن ينتشر في جميع أنحاء الجسم، ويمكن انتقال المرض بين الحيوانات والبشر من خلال الاتصال المباشر بالدم المصاب، أو سوائل الجسم، أو الآفات الجلدية. حدثت حالة من هذا الانتقال خلال تفشي المرض في الولايات المتحدة عام 2003، عقب وصول شحنة من الحيوانات المصابة بمرض جدري القردة من غانا، حيث تم وضع هذه الحيوانات بجوار كلاب البراري، والتي أصيبت بالعدوى لاحقًا، ونقلت الفيروس إلى 47 شخصًا، جميعهم كانوا على اتصال مباشر مع كلاب البراري المصابة.
يمكن أن ينتقل الفيروس أيضًا من إنسان إلى آخر بطرق متعددة، حيث ينتشر بشكل أساسي عبر الاتصال المباشر بالطفح الجلدي المعدي، أو الجرب، أو سوائل الجسم الأخرى للأشخاص المصابين. كما يمكن أن ينتقل الفيروس عن طريق الرذاذ التنفسي أثناء الاتصال المباشر وجهاً لوجه لفترة طويلة، مما يجعل الاتصال الوثيق عامل خطر رئيسي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن ينتقل الفيروس من خلال ملامسة الأسطح والمواد الملوثة (مثل فراش وملابس الشخص المصاب).
خلال تفشي المرض في عام 2022، انتشر الفيروس بشكل رئيسي من خلال الاتصال الجنسي، حيث تم تسجيل غالبية الحالات بين المثليين جنسيًا، ومزدوجي الميل الجنسي، وغيرهم من الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال. على الرغم من أن هذا قد يوحي بأن هذه الفئة السكانية هي الأكثر عرضة للخطر، إلا أن أي شخص لديه شركاء جنسيين متعددين يكون أكثر عرضة للخطر من عامة السكان. بالإضافة إلى ذلك، يُعرض الفيروس الأطفال، والنساء الحوامل، والأشخاص الذين لديهم تاريخ من الإكزيما، والأفراد الذين يعانون من ضعف المناعة الشديد، لخطر الإصابة بحالة شديدة من مرض جدري القردة.
كما ذكرنا سابقًا، فإن مرض جدري القردة متوطن في وسط وغرب إفريقيا. بشكل عام، هناك سلالتان متميزتان من الفيروس تنتشران في كل منطقة: السلالة 1 في وسط إفريقيا والسلالة 2 في غرب إفريقيا. تُعد السلالة 1 الأكثر شدة من بين السلالتين، حيث تُسبب مرضًا أكثر خطورة ومعدل وفيات أعلى مع بعض الفاشيات التي تقتل 10٪ من المصابين. أما السلالة 2، فتتميز بدرجة أقل من الشدة ومعدل وفيات أقل بكثير، حيث ينجو 99.9٪ من المصابين بالسلالة 2.
كانت السلالة 2، وتحديدًا السلالة الفرعية 2/ب، هي المسؤولة عن تفشي المرض في عام 2022، والذي سجل ما يقرب من 100,000 حالة مؤكدة و207 حالات وفاة في 122 دولة. أما التفشي المستمر، فهو مرتبط بالسلالة 1 وينتشر في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ بداية عام 2023. تم تحديد سلالة فرعية جديدة في مدينة التعدين كاميتوغا، شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في أبريل 2024. تؤثر السلالة 1ب بشكل رئيسي على البالغين، وتنتشر بسهولة أكبر، بينما تؤثر السلالة 1/أ بشكل أساسي على الأطفال.
يوجد بالفعل أكثر من 27,000 حالة مشتبه بها من الإصابة بجدري القردة وأكثر من 1,300 حالة وفاة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها. ومع ذلك، فإن الإبلاغ عن الإصابات والوفيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية معقد بسبب الصراع المستمر الذي أدى إلى نزوح أكثر من 7 ملايين شخص داخليًا، بالإضافة إلى نظام الرعاية الصحية الذي يقترب من الانهيار تحت ضغط تفشي الحصبة والكوليرا. نظرًا لهذه العوامل، من المرجح أن يكون عدد الإصابات والوفيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية أعلى بكثير من الأرقام المبلغ عنها.
الانتشار الحالي لسلالة أكثر عدوى وأكثر فتكًا من فيروس جدري القردة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والدول المجاورة وخارجها يمثل مصدر قلق كبير، ويبدو أن الفيروس قد تكيف ليصبح أكثر فعالية في الانتشار بين البشر. تفشى المرض دون رادع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تتوطن السلالة 1 من الفيروس، بسبب الصراع المستمر وضعف نظام الرعاية الصحية، مما يخلق بيئة ملائمة لظهور سلالات فيروسية جديدة، ويمكن أن تصبح هذه السلالات أكثر قابلية للانتقال والفتك، كما حدث مع ظهور سلالات جديدة من فيروس كوفيد-19 أثناء تفشي الجائحة وبعدها.
ومع ذلك، فإن مقارنة مرض جدري القردة في شكله الحالي بفيروس كوفيد-19 ستكون مبالغة بشكل كبير، حيث كان معدل انتقال فيروس كوفيد-19 أعلى بشكل ملحوظ، كما أن فيروس جدري القردة أبطأ في التحور. إلا أنه، إذا استمر انتشار جدري القردة دون رادع في جمهورية الكونغو الديمقراطية أو غرب إفريقيا، فقد تظهر سلالة قادرة على التسبب في جائحة أخرى ذات عواقب عالمية خطيرة.
يعد تاريخ مرض الجدري، المرتبط بفيروس جدري القردة، أساسًا هامًا لفهم شدة السلالات المتحورة من جدري القردة. تشير التقديرات إلى أن الجدري وحده قد أودى بحياة حوالي 300 مليون شخص منذ عام 1900، بمعدل وفيات بلغ حوالي 30%. انتشر هذا المرض عبر القرون من خلال حركة المسافرين والتجار، واستمر لآلاف السنين. وفي نهاية المطاف، نجح برنامج التطعيم العالمي في القضاء على الجدري بحلول عام 1977، ليصبح بذلك أول مرض بشري يتم القضاء عليه بالكامل حتى الآن.
ومن العجيب أن القضاء على الجدري ربما مهد الطريق لظهور فيروس جدري القردة. فبعد القضاء على الجدري، توقفت حملات التطعيم ضده، الأمر الذي جعل الأجيال الجديدة أكثر عُرضة للإصابة بالجدري والفيروسات المرتبطة به مثل جدري القردة. وعلى الرغم من إثبات لقاح الجدري فعاليته ضد جدري القردة الذي توصي منظمة الصحة العالمية حاليًا باستخدامه للتطعيم ضد جدري القردة، فإن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه بعد القضاء على الجدري، انخفض إنتاج اللقاح بشكل حاد، مما أدى إلى عدم كفاية الإمدادات لدعم حملة التطعيم الجماعية في حالة حدوث تفشي واسع النطاق لمرض جدري القردة.
وهنا يكمن الاختلاف الجوهري بين جدري القردة وكوفيد-19. فعند ظهور كوفيد-19، كان مرضًا جديدًا تمامًا على العالم، ولم يكن العالم مستعد للتعامل معه. وعلى النقيض، فإن جدري القردة ليس مرضًا جديدًا؛ فقد تم اكتشافه لأول مرة في القرود عام 1958، وتم تسجيل أول حالة إصابة بشرية به في عام 1970. وطالما كنا على دراية بخطورته وإمكانية تسببه في تفشي المرض في إفريقيا لأكثر من نصف قرن، ولدينا بالفعل لقاح فعال ضده فلماذا لم نتمكن إذًا من القضاء على هذا الفيروس؟
الإجابة البسيطة لعدم إمكانية القضاء على جدري القردة كما حدث مع الجدري يكمن في كونه مرضًا حيواني المنشأ، مما يعني أنه يمكن أن ينتقل من الحيوانات إلى البشر، على عكس الجدري الذي يصيب البشر فقط. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي جدري القردة على مجموعة واسعة من المستودعات الحيوانية، وخاصة القوارض، مما يجعل القضاء على الفيروس أمرًا شبه مستحيل. ومع ذلك، لا يعني هذا أن مكافحة المرض مستحيلة، خصوصًا أن لقاح الجدري لا يزال فعالًا ضد جدري القردة. من الناحية النظرية، يجب أن يكون من الأسهل التعامل مع جدري القردة مقارنة بالجدري أو كوفيد-19، وذلك لكونه متوطنًا في مناطق جغرافية محددة ولم يشهد انتشارًا واسع النطاق خارج تلك المناطق حتى تفشي المرض في عام 2022.
تتجلى التحديات بشكل واضح عند النظر في جوانب إنتاج اللقاح وتكلفته وتوزيعه. تنتج شركة بافاريان نورديك الدنماركية وشركة كي إم بيولوجيكس اليابانية اللقاحين الرئيسيين ضد جدري القردة، حيث تُقدّر تكلفة لقاح بافاريان نورديك بحوالي 100 دولار لكل جرعة. تُعد هذه التكلفة مرتفعة للغاية بالنسبة للعديد من البلدان التي يتوطن فيها جدري القردة، مما يجعلها تعتمد بشكل كبير على دعم منظمة الصحة العالمية. وعلى الرغم من تصنيف تفشي جدري القردة كحالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا خلال العامين الماضيين، كانت منظمة الصحة العالمية بطيئة في اعتماد اللقاحات، مما يقيد قدرة مجموعات الرعاية الصحية العامة على الحصول عليها وتوزيعها في البلدان الأكثر فقرًا.
ونتيجة لذلك، فإن البلدان المتضررة بشدة من العدوى لديها خيارات محدودة. في ظل غياب الموارد الكافية لشراء اللقاحات أو الحصول عليها من خلال منظمة الصحة العالمية، تضطر هذه الدول إلى طلب اللقاحات مباشرة من الدول التي خزنت واحتكرت الإمدادات النادرة من اللقاحات. حتى الآن، تبرعت الولايات المتحدة بخمسين ألف جرعة، وتعهدت ألمانيا بتقديم مائة ألف جرعة، فيما تعهدت إسبانيا بتقديم ما بين 500 ألف و650 ألف جرعة إجمالاً. ومع ذلك، تبقى هذه الأعداد بعيدة جدًا عن تلبية الاحتياجات الفعلية، حيث تشير التقديرات إلى أن ثمة حاجة ماسة إلى عشرة ملايين جرعة على الأقل لمواجهة التفشي بشكل فعال.
تزداد عملية توزيع هذه اللقاحات تعقيدًا نتيجة لعدم الاستقرار على الأرض، لا سيما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يسود صراع مستمر وتفاقم تفشي المرض الحالي. وعلى الرغم من أوجه القصور في منظمة الصحة العالمية، فضلًا عن أنماط عدم المساواة في الوصول إلى اللقاح التي برزت بشكل واضح خلال جائحة كوفيد-19، فإن هذه المشكلات قد تكررت مرة أخرى مع تفشي مرض جدري القردة.
كان من المتوقع أن يصبح العالم أكثر يقظة تجاه المصادر المحتملة لجائحة جديدة بعد تجربة جائحة كوفيد-19. ومع ذلك، كما يتضح من تفشي مرض جدري القردة حاليًا وفي عام 2022، لم يتغير الحال كثيرًا. وما لم تُبذل جهود إضافية لضمان الوصول العادل إلى اللقاحات في المناطق التي يتفشى فيها مرض جدري القردة، فإننا نعرض أنفسنا لخطر عودة ظهور أمراض مثل الجدري، مما قد يقوض الجهود العالمية الهائلة التي أدت إلى القضاء عليه في عام 1977.
“2023 Outbreak in DRC.” 2024. Centers for Disease Control and Prevention. August 26, 2024. https://www.cdc.gov/poxvirus/MPOX/outbreak/2023-drc.html
“About MPOX | MPOX | Poxvirus | CDC.” n.d. https://www.cdc.gov/poxvirus/MPOX/about/index.html
Adetifa, Ifedayo, Jean-Jacques Muyembe, Daniel G Bausch, and David L Heymann. 2023. “MPOX neglect and the smallpox niche: a problem for Africa, a problem for the world.” The Lancet 401 (10390): 1822–24. https://doi.org/10.1016/s0140-6736(23)00588-3
Assistant Secretary for Public Affairs (ASPA). 2024. “United States Government’s Response to the Clade I MPOX Outbreak in the Democratic Republic of the Congo and Other Countries in the Region.” HHS.Gov, August 14, 2024. https://www.hhs.gov/about/news/2024/08/14/united-states-governments-response-clade-i-MPOX-outbreak-democratic-republic-congo-other-countries-region.html
BBC News. 2024. “First case of more dangerous MPOX found outside Africa.” August 15, 2024. https://www.bbc.com/news/articles/c4gqr5lrpwxo
Emanuel, Gabrielle. 2024. “WHO declares 2024 MPOX surge a ‘public health emergency of international concern.’” NPR, August 14, 2024. https://www.npr.org/sections/goats-and-soda/2024/08/14/g-s1-16977/MPOX-public-health-emergency-world-health-organization-who
Mary, Catherine. 2024. “How The MPOX Virus Is Adapting to Humans.” Le Monde, August 26, 2024. https://www.lemonde.fr/en/environment/article/2024/08/26/the-MPOX-virus-is-now-adapting-to-humans_6721837_114.html
Reuters. 2024a. “Why MPOX Vaccines Are Only Just Arriving in Africa After Two Years.” The Hindu. August 26, 2024. https://www.thehindu.com/sci-tech/health/why-MPOX-vaccines-are-only-just-arriving-in-africa-after-two-years/article68568344.ece
Reuters, Thomson. “Spain to Donate 500,000 Mpox Vaccine Doses to Combat Outbreak in Africa | Reuters.” Reuters, 2024. https://www.reuters.com/business/healthcare-pharmaceuticals/spain-donate-500000-mpox-vaccine-doses-combat-outbreak-africa-2024-08-27/.
Reynolds, Mary G., Krista L. Yorita, Mathew J. Kuehnert, Whitni B. Davidson, Gregory D. Huhn, Robert C. Holman, and Inger K. Damon. 2006. “Clinical Manifestations of Human Monkeypox Influenced by Route of Infection.” The Journal of Infectious Diseases 194 (6): 773–80. https://doi.org/10.1086/505880
“Smallpox.” n.d. AMNH. https://www.amnh.org/explore/science-topics/disease-eradication/countdown-to-zero/smallpox
Welle, Deutsche. 2024. “Germany to donate Africa 100,000 MPOX vaccine doses.” Dw.Com, August 27, 2024. https://www.dw.com/en/MPOX-germany-to-give-africa-100000-doses-of-vaccine/a-70055504
تعليقات