يُمكن أن يؤرخ لعام ١٩٤٩ على أنه بداية التحول في تاريخ استعمال الأدوات المالية كسلاح لفرض الإرادة السياسية، وذلك بعد تمرير الكونجرس الأمريكي قانون مُراقبة الصادرات The Export Control Act of 1949 بغرض تقييد تصدير المواد والمعدات الاستراتيجية لدول الكتلة السوفيتية إبان الحرب الباردة، حيث خلق القانون مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية Office of Foreign Assets Control (OFAC)، لإدارة ملف الصادرات لدول الكُتلة الشرقية وخصوصًا الاتحاد السوفيتي، الصين، وكوريا الشمالية، وقد تلى خلق هذه الإدارة تصاعد بوتيرة سريعة لاستعمال الأدوات المالية كوسيلة للتأثير في مُجريات الحرب، حتى أن الولايات المُتحدة تفرض في الوقت الحالي عقوبات اقتصادية عبر أدوات مالية على نحو ٣٠ دولة سواء كحكومات أو أفراد وكيانات كما يوضح الشكل التالي:
ومع تسارع وتيرة التطور التكنولوجي ودخول الحواسيب والإنترنت إلى مجالات المال والأعمال في سبعينيات القرن الماضي، وسيطرتها على البيئة الاقتصادية العالمية مع بدايات القرن الحالي، بدأت تبزغ مجالات جديدة لاستخدام التكنولوجيا بصفة عامة والانترنت والحواسيب المُرتبطة بها كسلاح فتاك يُمكن أن يُسبب أضرارًا أوسع من تلك التي تُسببها الأسلحة التقليدية، وهو نمط اتخذ أقصى أشكاله في ٣١ مارس ٢٠١٥ عندما هاجمت إيران البنية التحتية التُركية لتُعطل شبكات الكهرباء والهاتف والإنترنت وشبكات المياه وحتى إشارات المرور، في ٤٤ من الولايات التُركية الإحدى وثمانين، وتُعيد ٤٠ مليونًا من سُكانها إلى ما يُشبه العصر الحجري لنحو ١٢ ساعة كاملة، قبل أن تنجح السُلطات التُركية في استعادتها مرة أخرى.
من هذان المجالان اللذين جرى تطويعهما في الاستخدامات العسكرية، تكون مجال جديد يجمعهما بعد الأزمة المالية العالمية التي قللت الثقة في النظام المصرفي، مما سمح بدخول مُقدمي خدمات مالية جُدد يعتمدون على الأدوات التكنولوجية ما خلق العُملات المُشفرة وتقنيات Blockchain، مما حفز المصرفيين لتعزيز وجودهم وإمكانياتهم عبر تقديم مُنتجات تستخدم التكنولوجيا، الأمر الذي خلق من الجانبين ما يُطلق عليه اليوم التكنولوجيا المالية أو Fintech، والتي جرى استخدامها لأول مرة بمدى واسع في الحرب الروسية الأوكرانية لمُعاقبة روسيا وقطعها عن النظام المالي العالمي، لذلك يستهدف هذا المقال تتبع أهم محطات توظيف التكنولوجيا المالية كأداة لفرض الإرادة السياسية الخارجية.
يُمكن التأريخ للتكنولوجيا المالية خلال ثلاث مراحل رئيسية وهي(3):
تضمنت هذه المرحلة بناء البنية التحتية التي تدعم الخدمات المالية من خلال أدوات تكنولوجية خارج نطاق على نطاق عالمي، بداية بأول كابل عبر الأطلسي في عام ١٨٦٦ ونظام تسوية المدفوعات الفيدرالي الأمريكي Fedwire في عام ١٩١٨ كأول نظام إلكتروني لتحويل الأموال باستخدام تقنيات مثل التليجراف.
بدأت في عام ١٩٦٧ بتنصيب أول جهاز ATM وتعمقت بإنشاء مؤشر NASDAQ ونظام المدفوعات الدولي SWIFT في السبعينيات، ونمو الخدمات المصرفية عبر الإنترنت مما غير الطريقة التي ينظر بها الناس إلى المؤسسات المالية، بالإضافة إلى تطور الخدمات المصرفية الرقمية في التسعينيات، بما في ذلك إطلاق PayPal في عام ١٩٩٨، هذا وقد أنهت الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨، والتي أنهت هذه الحقبة وحفزت الابتكار في الحقبة التالية من التكنولوجيا المالية.
بزغت بعد الأزمة المالية والتغيير التنظيمي بموجب مُخرجات لجنة بازل ٣ الذي فتح السوق أمام مقدمي خدمات جُدد، وتتميز هذه الحقبة بصعود العملات المشفرة، واعتماد الهواتف الذكية كوسيلة أساسية للوصول إلى الخدمات المالية، بما خلق الخدمات المصرفية المفتوحة والخدمات المصرفية كخدمة (BaaS)، بما سهل على الشركات الخارجية الوصول إلى البيانات المالية وعلى البنوك إطلاق البنوك الرقمية لتحسين تجربة العملاء، وصولًا لخلق نظام مالي عالمي جوهره هو التكنولوجيا المالية، قد يتطور في المُستقبل لتحويل وحدات النقد المُتداول بين الدول ذاتها إلى عُملات رقمية.
في ظل هذا الوضع أصبح النظام الاقتصادي العالمي أكثر اعتمادًا على التكنولوجيا المالية، التي باتت تُشكل جوهر النُظم المالية، والتي أصبحت بدورها أكثر هشاشة بسبب اعتمادها على التكنولوجيا، وتقديمها عبر وسائط أصبحت مُعرضة بقدر أكبر للاستهداف من الخارج
تهدف التكنولوجيا المالية أساسًا لتحسين الخدمات المالية وزيادة كفاءتها وتسهيل إمكانية وصول المستهلكين إليها، ومع تطور دور التكنولوجيا المالية عبر الزمن، تطورت كذلك كسلاح يُستخدم لاستهداف الدول والأنظمة المُعادية، بحيث بدأ الأمر باستهداف البنية التحتية للتكنولوجيا المالية ذاتها، مرورًا بتوظيفها لتعطيل البنية التحتية بما يعوق أو يُخفض قُدرات الدول على أداء وظائفها الأساسية، وصولًا لاستهداف المُقدرات الاقتصادية للدول عبر منعها من الوصول للنظام المالي العالمي، وهو ما نستعرضه فيما يلي:
تُحمل التكنولوجيا المالية أساسًا على الإنترنت، وتعمل تلك الأخيرة أساسًا عن طريق ربط عبر ما يُطلق عليه كابلات بحرية من الألياف الضوئية Fiber optics، تربط قارات وبُلدان العالم المُختلفة عبر بحار العالم ومُحيطاته حيث يجري تمديدها على القاع بما ينتهي إلى توصيل أرجاء العالم المُتباعدة، ويسمح بتداول البيانات بين الجهات المُختلفة، وفي حال جرى استهداف هذه الكابلات فإن ٩٧٪ من قُدرات الإنترنت يُمكن تهديها، وقد سُجلت عدة استهدافات لكابلات الانترنت الضوئية مُعظمها من جانب الدول الكُبرى بغرض السيطرة على البيانات المنقولة عبرها كالتالي:
في هذا السياق تُستخدم التكنولوجيا المالية كأداة لمنع الدول من القيام بوظائفها الأساسية، مثل تقديم الخدمات اليومية كالكهرباء، والماء، ونقل البريد، والتزود بالوقود، ودفع أجور الموظفين وغيرها، ولعل من أهم هذه المحاولات، إعاقة نظام التزود بالوقود في إيران، والانسحاب المُتزامن لمُقدمي الخدمات المالية من الاقتصاد الروسي، ونستعرض كُلًا منها كما يلي:
1. اعاقة نظام مدفوعات التزود بالوقود في إيران عام ٢٠٢١:
في عام ٢٠٠٧ أدخلت السُلطات الإيرانية نظام بطاقة الوقود “NIOPDC” National Iranian Oil Products Distribution Company إلى العمل كجزء من جهودها لخفض دعم الوقود وتعزيز الاستخدام الأكثر كفاءة لموارد الطاقة، و يعتمد النظام على بطاقة إلكترونية مُسبقة الدفع، تسمح للمواطنين الإيرانيين بشراء الوقود بسعر مُخفض، ما يُتيح للعملاء شراء بطاقة وقود من موقع مُحدد مُسبقًا وشحنها بمبلغ معين من المال، يمكنهم بعد ذلك استخدام بطاقة الوقود لشراء الوقود في أي محطة وقود في إيران تشكل جزءًا من شبكة NIOPDC.
بحلول عام ٢٠٢١، كانت تنتشر في إيران أكثر من ٣٦٠٠ محطة وقود تعمل حصريًا كجزء من شبكة الشركة الوطنية الإيرانية لتوزيع المنتجات النفطية، وتستخدم نظام بطاقة الوقود NIOPDC لتمرير ومُعالجة مدفوعات الوقود، وزعت هذه الشبكة من محطات الوقود في جميع أنحاء البلاد وباتت نظام التوزيع الأساسي للبنزين والديزل والمنتجات البترولية الأخرى على المستهلكين الإيرانيين.
وفي أكتوبر من ذات العام جرى استهداف النظام بهجوم إلكتروني خارجي نسبته السُلطات الإيرانية للولايات المُتحدة الأمريكية، مما تسبب في اضطرابات واسعة النطاق لإمدادات الوقود الإيرانية، حيث عجزت المحطات عن بيع الوقود، ليس بسبب عدم توافر المُنتج، أو عدم وصوله لمحطات الوقود، بل بسبب اعتماد المحطات على بطاقات الدفع المُسبق التي تعطل نظامها، مما منع المحطات من بيع المُنتجات المُتوافرة لديها، بما أسفر عن طوابير طويلة استمرت لنحو أسبوع حتى استطاعت السُلطات الإيرانية إعادة النظم للعمل مرة أخرى.
2. الانسحاب المُتزامن لمُقدمي الخدمات المالية من روسيا عام ٢٠٢٢:
مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، أطلقت الكُتلة الغربية حملة ضخمة تستهدف الضغط على الشركات العاملة في روسيا لتعليق أعمالها في البلاد، أو الانسحاب التام من الاقتصاد الروسي، وذلك بهدف تعطيل قطاعات واسعة من الاقتصاد المحلي، عبر ترك فراغ لا يستطيع مُقدمي الخدمات المحليين سده، بما يتسبب في ارباك ورُبما تعطل للاقتصاد الروسي.
على إثر هذه الحملة تعرض الاقتصاد الروسي لضغوط قصوى تمثلت في خروج ٢٠٦ شركة دولية من الاقتصاد كُليةً، بالإضافة إلى انسحاب ٤٦٨ شركة من إدارة أعمالها، فيما علقت ٧٢٩ شركة عملياتها التجارية، واكتفت أكثر من ٥٠٠ شركة أخرى بتقليص حجم أعمالها، ووقف ضخ استثمارات جديدة إليها، كما يوضح الشكل التالي:
من بين هذه الشركات كانت تعمل في مجال التمويل والمدفوعات الإلكترونية نحو ٢١٨ شركة، لم يتبق منها ما يقوم بأعماله المُعتادة إلا ٥٦ شركة فقط، فيما انسحبت ٩٨ شركة من إدارة أعمالها، يوضح الشكل التالي توزيع الشركات المُنسحبة من حيث الجنسية:
من بين أهم هذه الشركات جاءت شركات المدفوعات الإلكترونية مثل فيزا، ماستركارد، أبل باي وبايونير، بالإضافة إلى شركات التأمين مثل أكسا، وسيتي جروب، وبنوك استثمار كبلاك روك وبلاك ستون، فضلًا عن البنوك التقليدية مثل بنك أوف شاينا، بي إن بي بريبا، بنك أوف جورجيا ودويتش بنك… إلخ مما كاد يُعرض سلامة النظام المالي الروسي للخطر لولا وجود بدائل محلية قوية استطاعت الحلول محل هذه الشركات الدولية، لكن بتكلفة كبيرة بلغت في أقصى التقديرات ٥٫٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.
في هذه الحالة يستهدف تسليح التكنولوجيا المالية قطع اتصال الدولة بالنظام المالي العالمي، بحيث يُصبح تدفق الاستثمارات للدولة أمر شديد الصعوبة، فضلًا عن رفع تكلفة وصولها للتمويل، أو حتى منع هذه التمويلات عنها، والأمثلة على ذلك عديدة للغاية لعل أبرزها في هذا السياق، مجموعة العقوبات الأوروبية على النظام المصرفي الروسي، والتي تضمنت عدد من الإجراءات أهمها ما يلي:
1. عقوبات على البنك المركزي، وزارة المالية، والصندوق السيادي الروسي:
فرضت كُلًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على البنك المركزي وصندوق السيادي الروسي، بهدف منع وصول روسيا إلى احتياطيها من النقد الأجنبي، وخفض قُدرتها على الحصول على التمويل الخارجي، وإفقادها القُدرة على تلقي الاستثمارات الأجنبية، وبناء على ذلك حظر OFAC على الأفراد الأمريكيين الانخراط في أي معاملات مع الكيانات الثلاثة، ومنع مواطني الدول الأخرى من استعمال الدولار في التعاملات معها، وبالتالي حالت هذه العقوبات بين المركزي الروسي وأصوله في البنوك الأجنبية، وفي ذات الوقت منعت وزارة المالية الروسية من الحصول على أية قروض خارجية، وأخيرًا حُرم الصندوق السيادي من جني أرباح استثماراته في الخارج، لكن المُثير هو قيام الكُتلة الغربية باستهداف احتياطي الذهب الروسي، الذي كان يُعتبر أصلًا أمنًا وبعيدًا عن تأثيرات التكنولوجيا المالية.
حيث اتُخذت عدة إجراءات لحرمان روسيا من استخدام هذه الذهب الموجود في البنك المركزي الروسي، وذلك المودع خارجه، من بين أهمها:
• تجميد أصول البنك، عبر استهدافه بعقوبات مالية واسعة، تمنعه من بيع الذهب بالدولار.
• فُرضت كذلك عقوبات تحظر الإتجار أو المدفوعات أو المعاملات أو السمسرة أو المساعدة في الشراء أو بيع أو تقديم خدمات الاستثمار للديون السيادية الروسية أو حقوق الملكية أو غيرها من الأدوات المالية الصادرة عن الكيانات المملوكة للدولة، وشمل ذلك الذهب الذي تحتفظ به أو تديره أي كيانات روسية وعلى رأسها البنك المركزي.
• حذرت القوى الغربية أي فرد أو مؤسسة من التعامل مع احتياطيات الذهب الروسية بتوجيه عقوبات مُماثلة للعقوبات المفروضة على روسيا، بما في ذلك فقدان الوصول إلى أنظمة المدفوعات بالدولار وشبكات التمويل الدولية، أدى ذلك إلى ردع العديد من الأطراف المحتملة وآليات التبادل التي قد تُسهل تسييل الذهب الروسي.
• وضع احتياطيات البنك المركزي من الذهب على “القائمة المحجوبة”، وضعت بعض العقوبات بشكل صريح احتياطيات الذهب للبنك المركزي الروسي على قائمة الأصول المحظورة في العالم، بحيث بات استخدام أيًا منها غير مشروع حتى بواسطة البنك المركزي الروسي ذاته.
• أخيرًا هددت الكتلة الغربية علانية بأن أي محاولة من جانب الحكومة الروسية لاستخدام احتياطيات الذهب للالتفاف على العقوبات ستؤدي إلى جولات أخرى أشد قسوة من الإجراءات العقابية، بما كان يُفترض معه منع السُلطات الروسية من استخدامه.
2. حظر عدد من البنوك الروسية من الوصول إلى نظام SWIFT:
تُعتبر SWIFT شبكة رسائل عالمية تسهل المعاملات المالية بين البنوك والمؤسسات المالية في جميع أنحاء العالم وتبلغ عدد المؤسسات التي تستخدمها أكثر من ١١ ألفًا، وفي ١مارس ٢٠٢٢، اتفق الاتحاد الأوروبي والولايات المُتحدة الأمريكية، استبعاد سبعة بنوك روسية كُبرى، بما فيها:
• سبيربنك Sberbank: أكبر بنك في روسيا وأهم مؤسسة مالية في نظامها المالي، يمتلك ما يقرب من نصف أصول البنوك الروسية ويُقدم خدمات لملايين الأفراد والشركات، كان عزل سبيربنك من Swift ضربة كُبرى للنظام المالي الروسي، خصوصًا بعد تكرار تجربة ٢٠١٤، التي كبدت البنك مئات الملايين من الدولارات.
• VTB Bank: ثاني أكبر بنك في روسيا، تمتلك الحكومة الروسية أغلبية أسهمه، يقدم خدمات مصرفية للشركات وللمُستثمرين أساسًا، ويلعب دورًا رئيسيًا في تمويل التجارة الدولية الروسية، ويتعامل مع الأموال والمعاملات الحكومية.
• Gazprombank: يرتبط ارتباطًا وثيقًا بشركة الغاز الروسية العملاقة Gazprom، ويسهل الصفقات والتمويلات التجارية الدولية للشركة، ويتلقى حصيلة صادرات الشركة، ويقوم بتحويل عمليات توسعها في الخارج.
• Promsvyazbank: يوفر التمويل للشركات الكبرى المملوكة للدولة ويتعامل مع شركات قطاع الدفاع، أدى استبعاده إلى تعطيل تمويل مؤسسات الدولة المهمة والصناعات الاستراتيجية، خصوصًا بعد أن حد من قدرة روسيا على التعامل مع شركائها الدوليين في المسائل الأمنية والعسكرية.
خُلاصة ما سبق أن التكنولوجيا المالية باتت ركيزة أساسية من ركائز النظام المالي العالمي، وبالتالي أصبح تطور النظام وتقدمه مُعتمدًا عليها بأكثر من غيرها، الأمر الذي أتاح توظيفها كسلاح لعرقلة وظائف النظام المالي الوطني، أو منع الدول الوطنية من القيام بوظائفها الأساسية، وأخيرًا منعها من الوصول إلى النظام المالي العالمي، بما يمنعها من الحصول على التمويل أو تيسير تدفق الاستمارات.
تعليقات