لطالما كانت العلاقات الثنائية بين تركيا وإيران واحدةً من أكثر العلاقات الدولية تميزًا في العالم. وعلى الرغم من كثرة الخلافات بين البلدين حول العديد من القضايا، تظل محاور التعاون بينهما حائلًا أمام تفاقم العداء بينهما. ولكن في ظل التغيرات الجيوسياسية التي حدثت مؤخرًا ولا تزال تحدث حتى يومنا هذا، من الأهمية بمكان دراسة ما إذا كانت "مساحات الاتفاق والخلاف" بين الدولتين ستتغير في مرحلةٍ ما، أم سيظل الوضع على ما هو عليه في الوقت الحالي؟ لذلك، يتناول هذا التحليل نقاط الخلاف والتعاون بين الدولتين للتعرف على الشكل الذي اتخذته العلاقات بينهما في السابق حتى نفهم المسار الحالي لها.
لطالما كانت المشكلة الكردية مصدر خلاف وتعاون بين طهران وأنقرة. وفي سياقات أخرى، ظهر التعاون جليًا بين البلدين وتقاربت وجهات النظر بينهما مثلما حدث أثناء التدخل الأمريكي في العراق عام 2003 حيث رأى الجاران أن الخطر الناجم عن ضم الولايات المتحدة للعراق ربما قد يؤدى إلى استقلال الأكراد العراقيين الذين بدا أنهم أهم شريك للأمريكيين في العراق. ومع ذلك، على الرغم من المخاوف المشتركة بين البلدين بشأن احتمالات استقلال الأكراد، اتبعت طهران وأنقرة سياسات متناقضة؛ ففي عام 2011، أُثير الخلاف بين الدولتين عندما ذكرت وسائل الإعلام الوطنية في تركيا أن إيران اعتقلت مراد كارايلان، القيادي في حزب العمال الكردستاني، ما أدى إلى تكهنات حول طبيعة العلاقات بين حزب العمال الكردستاني وإيران. وعندما وقعت عدة هجمات في ريف قضاء شمدينلي بولاية هكاري، بدأت الحكومة التركية في إلقاء اللوم على إيران لدعمها حزب العمال الكردستاني حيث أدت تلك الخلافات إلى استخدام طهران لحزب العمال الكردستاني كورقة ضغط ضد أنقرة في نزاعاتهما الإقليمية. لذا، فإنه حتى عندما تُتيح المشكلة الكردية فرصةً للتفاهم المتبادل بين البلدين، فالحال دائمًا هو أن يستمر الطرفان في إيجاد ثغرة وبدء الصدام حول الأكراد.
على صعيدٍ آخر، توترت العلاقات بين البلدين في أعقاب الصراع السوري؛ فبينما يُوصَف الدعم التركي للمعارضة في سوريا بأنه تهديد لإيران، يرى النظام الإسلامي الإيراني أن نظام الأسد هو الحليف الوحيد لإيران في الشرق الأوسط. ومنذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979، ظل النظام الديني الإيراني والنظام البعثي في سوريا مصدر دعم لبعضهما البعض، لذا سيشكل سقوط نظام الأسد مشكلةً لإيران وقد يؤثر على السياسة الداخلية لها من خلال تقوية المعارضة وتعميق الانقسامات داخل القيادة الإيرانية من ناحية، وزيادة النفوذ الجيوسياسي لتركيا في المنطقة من ناحيةٍ أخرى. كما يشكل التدخل العسكري التركي في سوريا مصدر قلق لإيران حيث وصفته وسائل الإعلام الرسمية في طهران بأنه غزو، وكذلك وصفت الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا بـ “الإرهابيين المدعومين من تركيا”. والأهم من ذلك أن الاستيلاء على منطقتي تل رفعت ومنبج سيشكل أيضًا مصدر قلق لطهران بسبب قربهما من بلدتي الزهراء ونبل الشيعيتين فضلًا عن مدينة حلب ذاتها، لذا تعلن طهران عن اعتراضها رسميًا على التحركات التركية وتعزز من جهودها لدعم النظام السوري، واتخذت موقفًا مماثلًا ضد عملية غصن الزيتون التي شنتها تركيا في عام 2018.
في سياق العلاقات بين الجانبين، وجدت تركيا وإيران أرضيةً مشتركة للتعاون بينهما، وعلى الرغم من أن هذه الأسباب المشتركة تكون مؤقتة في العادة، إلا أنها جلبت بعض الفوائد لكلا الجانبين. وكان الربيع العربي من بين الأحداث التي تلاقى فيها البلدان وإن كان عن طريق الصدفة، حيث شكَّل سقوط الأنظمة البائدة في المنطقة العربية فرصةً لكلٍّ من أنقرة وطهران لدخول الملعب ومحاولة ملء فراغ السلطة واستغلال الوضع الجديد من خلال لعب دور المهيمن الإقليمي. وعلى الرغم من أن الحالة السورية شكلت ولا تزال تشكل مفترق طرق في العلاقة بين تركيا وإيران، إلا أن انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 وسياسته في دعم محور الثورة المضادة في كلٍّ من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة جمع البلدين مرةً أخرى إذ بدا كل منهما متخوفًا من وجود نظام إقليمي جديد ترعاه أمريكا. بالإضافة إلى ذلك، تصاعدت في تركيا المشاعر المعادية للولايات المتحدة بعد محاولة الانقلاب التي وقعت في عام 2016 والتي يُعتقَد أنها خُطط لها بدعمٍ من الأمريكيين. كما كان الحصار المفروض على قطر أحد الأسباب وراء الصداقة قصيرة الأمد التي جمعت بين تركيا وإيران بعدما شكلت كل من قطر وتركيا وإيران محورًا في مواجهة تكتل مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين أثناء الحصار، حيث أدركت طهران وأنقرة أنهما سيتلقيان ضربةً لمكانتهما الإقليمية إذا قبلت قطر المطالب الإقليمية، ما دفعهما للوقوف إلى جانب الدوحة في مواجهة ضغوط جيرانها.
من ناحيةٍ أخرى، تشكل العلاقات التجارية الثنائية إحدى نقاط الالتقاء الرئيسية بين البلدين على مر السنين، حيث يُعد حجم التجارة بين الدولتين عاملًا مهمًا للغاية في احتواء التنافس الذي قد ينشأ بينهما حول مختلف الموضوعات. وقد تعرضت تلك العلاقات التجارية لبعض العوامل التي أدت إلى انخفاضها بنسبة 73٪ مثل جائحة كوفيد-19 والعقوبات الأمريكية المتكررة على طهران. وحتى مع فرض عقوبات على جهات الإقراض التركية بسبب اتهامهم بالمشاركة في مخططٍ بمليارات الدولارات لتجنب العقوبات على طهران، أعرب الجانبان – على هامش زيارة أردوغان لطهران في عام 2022 – عن رغبتهما في زيادة حجم التجارة بينهما إلى 39 مليار دولار. وتشير البيانات التي نشرها معهد الإحصاء التركي (TUIK) إلى أن ما رغب فيه الزعيمان التركي والإيراني في عام 2022 كان يحدث بالفعل على أرض الواقع إذ شهد كلا الشريكين طفرةً في حجم التجارة بينهما في عام 2022 تجاوزت 6 مليار دولار بزيادةٍ قدرها 15٪ عن عام 2021، كما بلغت الواردات غير النفطية والغازية من إيران إلى تركيا ذروتها لتصل إلى 49٪ في الفترة من مارس إلى أغسطس فقط. ومن ثم، تكشف الأرقام أنه على الرغم من وصول العلاقات بين الدولتين في بعض النقاط إلى “المنطقة الرمادية”، فإن التجارة تظل هي الرابط الوحيد غير القابل للكسر بينهما.
أخيرًا يبقى السؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ هل ستبقى العلاقات بين طهران وأنقرة في “المنطقة الرمادية” ما يعني أنه لن تستمر الصداقة الكاملة ولا التنافس بينهما أم أن نمطًا جديدًا سيظهر لا محالة في تلك العلاقات في ظل الظروف السياسية المتغيرة؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال مباشرةً، ولكن على أي حال، يبدو أن المنطقة الرمادية ستستمر بين البلدين كلما ذُكِرت العلاقات بينهما على الرغم من أن نقاط التعاون المذكورة آنفًا قد اضمحلت كثيرًا خلال السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، تغير النظام الجيوسياسي في المنطقة الذي أشعل مخاوف البلدين وأدى إلى وحدتهما في النهاية وحل محله نظام آخر تميّز بإنهاء الحصار على قطر وتوطيد العلاقات بين تركيا ونظرائها العرب. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يسعى الرئيس التركي إلى اتباع سياسةٍ تشهد مزيدًا من التعاون مع دول الخليج الغنية للحصول على دعمهم خاصةً في ظل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد التركي، وهو ما حدث بالفعل خلال العامين الماضيين. وعلى الرغم من أنه يبدو أن مجالات التفاهم بين الأتراك والفرس تتلاشى شيئًا فشيئًا، فهناك عوامل أخرى تؤكد أن الوضع الحالي سيظل قائمًا؛ فقبل كل شيء، تدرك إيران أن تبنيها لموقفٍ عدواني سيؤدي إلى رد فعل سلبي من تركيا التي بدأت تتحول تجاه إسرائيل والخليج، وعلى ذات المنوال، تدرك تركيا أن انعدام الاستقرار داخل إيران المجاورة ليس في صالح الحدود التركية، والأهم من ذلك أن العلاقات التجارية بينهما تكشف عن مصلحتها المشتركة في إبقاء “الباب مفتوحًا”. وأخيرًا وليس آخرًا، ربما لا يكون هناك هدف طويل الأجل ولا عدو مشترك للدولتين يحفظ عليهما صداقتهما، لكن لا شك في أن المصالح المشتركة عادةً ما تنشأ لكسر حلقة التنافس بين الشريكين.
Qaed, Anas Al. “Pursuing a Precarious Peace: Examining the Turkey-Iran Relationship.” Gulf International Forum, July 19, 2022. https://gulfif.org/pursuing-a-precarious-peace-examining-the-turkey-iran-relationship/
This aerial view shows Turkish-backed Syrian rebel fighters in the border town of Azaz in the rebel-held northern part of the Aleppo province heading toward the Kurdish-controlled town of Tel Rifaat on June 9, 2022. – BAKR ALKASEM/AFP via Getty Images, 2023 Sofiane ALSAAR | AFP | Apr 25, 2023 Peter MURPHY | AFP | Apr 25, and 2023 Mahmut BOZARSLAN | AFP | Apr 25. “Iran, Turkey Brace for Face-off in Syria.” Al, 2022. https://www.al-monitor.com/originals/2022/06/iran-turkey-brace-face-syria
Cengiz, Mehmet Emin. “The Future of the Iranian-Turkish Relationship: A Contained Geopolitical Rivalry or a Possible Escalation between Ankara and Tehran?” Al Sharq Strategic Research, September 30, 2022. https://research.sharqforum.org/2022/09/20/iranian-turkish-relationship/#_edn12
Tüi̇k Kurumsal, 2022. https://data.tuik.gov.tr/Bulten/Index?p=Dis-Ticaret-Istatistikleri-Agustos-2022-45543
Larrabee, Stephen, and Alireza Nader. “Turkish-Iranian Relations in a Changing Middle East.” NATIONAL DEFENSE RESEARCH INSTITUTE, 2013. https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/research_reports/RR200/RR258/RAND_RR258.pdf
Agency, Tasnim. “Turkey-Iran See $6 Billion Trade in 2022 – Economy News – Tasnim News Agency.” Tasnim News Agency. Tasnim News Agency, February 3, 2023. https://www.tasnimnews.com/en/news/2023/02/03/2847726/turkey-iran-see-6-billion-trade-in-2022
Turak, Natasha. “Erdogan’s Celebrity Welcome in the UAE Affirms a Sea-Change in Relations, Lifeline for Turkey’s Economy.” CNBC. CNBC, February 27, 2022. https://www.cnbc.com/2022/02/15/erdogans-uae-visit-affirms-shift-in-relations-help-for-turkeys-economy.html
تعليقات