شهدت الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في أعمال العنف، إذ يرتبط توقيت هذا التصعيد ارتباطًا وثيقًا باتفاق وقف إطلاق النار في غزة. فبينما ترفض العناصر اليمينية اتفاق الهدنة، يُقال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مضطر لإرضاء تلك العناصر داخل ائتلافه الحاكم. ونتنياهو، الذي يُعتقد أنه تعرض لضغوط لقبول الاتفاق، لا يجد بديلًا لإرضاء اليمين المتطرف سوى تحويل مسار الحرب إلى الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن هذا التفسير ليس خاطئًا تمامًا، إلا أن هناك تحليلًا آخر يشير إلى أن ما يحدث في الضفة الغربية هو جزء من خطة إسرائيل التوسعية التي تهدف إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. وتسعى إسرائيل، من خلال المناورات القانونية والسياسية، إلى تحويل الضفة الغربية إلى "غزة جديدة"، مما قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية أوسع.
العنف في الضفة الغربية لا يحدث بشكل عشوائي، بل هو جزء من خطة منهجية إسرائيلية، ورغم أن الاشتباكات بين المستوطنين والفلسطينيين ليست ظاهرة جديدة، إلا أن الوضع الحالي يختلف لعدة أسباب. أبرز هذه الأسباب أن التصعيد يأتي في لحظة مفصلية بالنسبة للقضية الفلسطينية، التي تمر بمرحلة تحول بعد أحداث 7 أكتوبر واتفاق وقف إطلاق النار الذي أعقبها. وما يميز هذا الاتفاق هو أنه لم يكن وقفًا تقليديًا للقتال، بل تبعه تصعيد في التوترات على المستويين الإقليمي والدولي، تفاقمت بفعل دبلوماسية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحازمة. ويبدو أن الإسرائيليين لديهم دافع واستراتيجية لتحويل الضفة الغربية إلى “غزة جديدة”، ويدركون ضرورة التحرك بسرعة قبل انتهاء ولاية ترامب الرئاسية. وفي هذا السياق، لم يكن وقف إطلاق النار في يناير نهاية للقتال، بل مجرد تغيير لساحة المواجهة نحو جبهات جديدة، بما فيها الضفة الغربية.
تعمل إسرائيل على شرعنة العنف في الضفة الغربية من خلال إجراءات قانونية ممنهجة. فقد وافقت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون التشريع مؤخرًا على مشروع قانون يسمح للمستوطنين بشراء وتملك الأراضي في الضفة الغربية المحتلة، مما يشير إلى تصعيد في الجهود الرامية إلى ضم المنطقة. وفي حال إقرار مشروع القانون في الكنيست، فسيُسمح للمستوطنين بشراء الأراضي دون أي رقابة، مما يجعلهم مُلاّكًا دائمين لها. هذا التشريع سيعزز سيطرة المستوطنين غير الشرعيين، الذين لديهم تاريخ طويل من الاستيلاء القسري على الأراضي الفلسطينية من خلال الترهيب، وسيمنحهم القدرة على تزوير وتسجيل الأراضي المسروقة، وتوسيع البؤر الاستيطانية، مما يُقوِّض فرص إقامة دولة فلسطينية في المستقبل. وبينما تهدف هذه الخطوات إلى تعزيز موقف المستوطنين في الضفة الغربية، قدَّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعمًا إضافيًا لهم. فبعد يوم واحد فقط من تنصيبه، رفع ترامب العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن على جماعات المستوطنين المتطرفين والأفراد المتهمين بارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
وفي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى شرعنة وجودها في الضفة الغربية، ساهمت التطورات الأخيرة في تقويض شرعية السلطة الفلسطينية نفسها. فمنذ أوائل ديسمبر، اندلعت مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين وأجهزة الأمن الفلسطينية، مما أدى إلى واحدة من أسوأ المواجهات المسلحة بين الفلسطينيين منذ سنوات. ففي مخيم جنين للاجئين، شنت السلطة الفلسطينية “حملة أمنية” نادرة تحت شعار “حماية الوطن”، لكن هذه العملية قوبلت باحتجاجات واسعة، حيث قُتل عدد من الفلسطينيين على يد قوات الأمن الفلسطينية، من بينهم صحفية أُصيبت بعيار ناري في الرأس، وقائد في كتيبة جنين، وشاب يبلغ من العمر 19 عامًا. وفي حادثة أخرى، اعتقلت أجهزة الأمن الفلسطينية صحفيًا بارزًا من قناة “الجزيرة” أثناء تغطيته لليوم الأول من الهدنة بين إسرائيل وحماس، وفقًا لوسائل الإعلام المحلية.
تفقد السلطة الفلسطينية شعبيتها في الضفة الغربية، مع استمرار معدل تأييد الرئيس محمود عباس، الذي يقود السلطة الفلسطينية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، في الانخفاض خلال عام 2024. ففي عام 2014، بلغت نسبة التأييد لعباس ذروتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث بلغت 64%، لكنها انخفضت منذ ذلك الحين إلى 29%، بينما ارتفعت نسبة عدم الرضا عن أدائه إلى 59%.
يؤدي إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى خلق فراغ في السلطة يتماشى مع المصالح الإسرائيلية، مما يمهد الطريق أمام إسرائيل لفرض سيادتها على المنطقة. هذا التطور يجعل الضفة الغربية أكثر عرضة للاستهداف مقارنةً بغزة، حيث تواجه إسرائيل في القطاع قوة مقاومة مهيمنة تتمثل في حماس. فبدون حماس أو أي مقاومة منظمة في الضفة الغربية، سيكون أمام إسرائيل فرصة أسهل لتوسيع سيطرتها وخلق واقع جديد قد تسوقه دوليًا على أنه قاعدة “شرعية” للمستوطنين الإسرائيليين. غير أن هذا السيناريو سيؤدي إلى تصاعد العنف، مع ترك الفلسطينيين في الضفة الغربية دون قيادة شرعية ودون حركة مقاومة، مما قد يترتب عليه إما تصاعد العنف بأبعاد إنسانية كارثية، قد تتجاوز حتى مستوى العنف الذي شهدته غزة، أو التهجير الجماعي القسري للفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وخاصة الأردن. وسيكون هذان السيناريوهان الأخيران أكثر خطورة من الوضع الحالي في غزة، إذ إن غياب المقاومة المنظَّمة، إلى جانب الوجود المتزايد للمستوطنين، سيجعلان الضفة الغربية هدفًا أكثر سهولة أمام فرض السيطرة الإسرائيلية.
قد تؤدي التداعيات المباشرة للممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى تحويلها إلى “غزة جديدة”، لكن التأثيرات تتجاوز الأراضي الفلسطينية لتشمل المنطقة بأسرها، مع عواقب وخيمة على الدول المجاورة، وأبرزها الأردن، الذي سيتحمَّل العبء الأكبر من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمتعلقة بالهوية الوطنية. فوفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، كان يعيش في الضفة الغربية حوالي 3 ملايين فلسطيني عام 2022، وكثير منهم لديهم روابط عائلية وثيقة بالأردن، بل ويحمل بعضهم الجنسية الأردنية من الفترة التي كانت فيها الضفة الغربية تحت الحكم الأردني قبل عام 1967. ومع تكثيف المستوطنين الإسرائيليين والجيش الإسرائيلي جهودهم لإرهاب الفلسطينيين في الضفة الغربية، من المحتمل أن يلجأ العديد من الفلسطينيين إلى الأردن. ومن شأن هذا النزوح الجماعي أن يُشكل أزمة وجودية للأردن، سواء حدث ذلك بشكل مفاجئ بسبب التهجير القسري أو بشكل تدريجي نتيجة العنف المتصاعد للاحتلال.
ومع وصول الدين العام الأردني إلى 91.2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول سبتمبر 2024، وارتفاع معدل البطالة إلى 21.4%، إضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وشُح الموارد المائية، فإن أي محاولة إسرائيلية لدفع جزء من الفلسطينيين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة في الضفة الغربية نحو الأردن قد تُشكِّل تهديدًا وجوديًا للاقتصاد الأردني، الذي يعاني بالفعل من وضع غير مستقر. وبالإضافة إلى العبء الاقتصادي، فإن استيعاب ملايين الفلسطينيين النازحين يمثل تحديًا اجتماعيًا كبيرًا للأردن. فقد استضافت المملكة موجات متتالية من اللاجئين الفلسطينيين خلال نكبة 1948، ونكسة 1967، وأزمة 1990، وهي تؤوي اليوم أكثر من نصف مليون لاجئ سوري وعراقي. ومن شأن إضافة حوالي مليوني لاجئ فلسطيني إلى سكان الأردن البالغ عددهم 11 مليون نسمة أن يضاعف هذا التحدي. كما أن قبول مثل هذا التدفق الكبير من المهاجرين قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية بين الأردنيين من أصول فلسطينية، الذين يشكلون أكثر من نصف السكان، والأردنيين من أصول أخرى، مما يعمّق الانقسامات المجتمعية ويزيد من حالة عدم الاستقرار.
قد تمتد التداعيات على الأردن إلى النظام الملكي نفسه، حيث إن وصول عدد كبير من الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى الأردن، سواء بالقوة أو هربًا من العنف الإسرائيلي، سيشكل عامل زعزعة استقرار خطير. وسيتعين على عاهل الأردن إما الاستجابة لمطالب شعبه واتخاذ موقف تصعيدي ضد إسرائيل، أو محاولة احتواء الأزمة سياسيًا. وكلا السيناريوهين يحمل مخاطر جمة، ففي الحالة الأولى، ستنجرف البلاد إلى حرب، بينما يعني السيناريو الآخر أن عمّان ستضطر إلى قبول ملايين المهاجرين. وفي حين أن إدارة ترامب قد لا تقدم للأردن المساعدات الضرورية لاستيعاب تدفق اللاجئين، فإن استقرار الحكومة الأردنية نفسها سيكون مُعرضًا للخطر، ولن تمتلك عمَّان الموارد الكافية لتلبية احتياجات شعبها وكذلك احتياجات الفلسطينيين الفارين من الضفة الغربية.
وبينما سيقع الأردن تحت أكبر ضغط إقليمي بسبب أي سيناريو لنزوح الفلسطينيين، فإن الانعكاسات الإقليمية لن تتوقف عند حدوده. قد يلجأ الفلسطينيون المهجرون قسرًا إلى دول مجاورة أخرى، مثل مصر، مما يضع عبئًا إضافيًا على الاقتصاد المصري، الذي يعاني بالفعل من أزمات حادة. كما أن تصاعد الأزمة الفلسطينية سيجعل حل الدولتين أكثر صعوبة، مما قد يؤدي إلى زيادة عزلة إسرائيل دوليًا. وقد تدفع التطورات الإقليمية دولًا كبرى مثل السعودية إلى إعادة النظر في جهود التطبيع مع إسرائيل، أو حتى إيقافها، مما يزيد من عزلة تل أبيب ويحد من فرصها في تكوين تحالفات إقليمية جديدة.
يجب ألا يُنظر إلى العنف المتصاعد في الضفة الغربية على أنه مجرد حلقة جديدة من حلقات عنف المستوطنين في الأراضي الفلسطينية، بل هو جزء من مخطط إقليمي أوسع يعيد تشكيل المشهد بعد أحداث 7 أكتوبر واتفاق وقف إطلاق النار الأخير. هذه المرة، العنف في الضفة الغربية ليس عشوائيًا، بل مُخطط له بهدف شرعنة الوجود الإسرائيلي. قد يبدو الأمر ظاهريًا مجرد تصعيد عسكري من قوات الاحتلال، لكنه في الحقيقة جزء من خطة أوسع لفرض واقع جديد في المنطقة، وهو أمر لا يمكن التغاضي عنه.
Diplomatic Courier. 2024. “Palestinian Life in the West Bank, East Jerusalem after Oct. 7.” Diplomatic Courier, [accessed February 13, 2025]. https://www.diplomaticourier.com/posts/palestinian-life-in-the-west-bank-east-jerusalem-after-oct-7
Norwegian Refugee Council. 2025. “Escalation in the West Bank: Violations Surge amid Fragile Ceasefire in Gaza.” Norwegian Refugee Council, January. https://www.nrc.no/news/2025/january/escalation-in-the-west-bank-violations-surge-amid-fragile-ceasefire-in-gaza
Palestine Chronicle. 2024. “Buying the West Bank: Israel’s New Annexation Method ‘Catastrophic.’” Palestine Chronicle, [accessed February 13, 2025]. https://www.palestinechronicle.com/buying-the-west-bank-israels-new-annexation-method-catastrophic/
Quincy Institute. 2024. “Jordan on the Edge: Pressures from the War in Gaza and the Incoming Trump Administration.” Quincy Institute for Responsible Statecraft, [accessed February 16, 2025]. https://quincyinst.org/research/jordan-on-the-edge-pressures-from-the-war-in-gaza-and-the-incoming-trump-administration/#h-jordan-over-the-edge-annexation-of-the-west-bank
Trading Economics. 2024. “Jordan Unemployment Rate Steady at 22.3% in Q3.” Trading Economics, [accessed February 16, 2025]. https://tradingeconomics.com/jordan/unemployment-rate#:~:text=Jordan%20Unemployment%20Rate%20Steady%20at,(34.7%25%20vs%2029.7%25).
تعليقات