تُعتبر الصين التهديد الرئيسي للنظام العالمي الحالي الذي تدعمه القوى الغربية، واتضح ذلك عندما صنفت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بكين باعتبارها "التحدي الأول" وأدرجها حلف شمال الأطلسي في وثيقته الجديدة "للمفهوم الاستراتيجي" كتحدي من ذات الدرجة.
ولطالما أعلنت الصين عن نفسها كشريك تجاري لمُعظم دول العالم، لا يسعى إلى تحقيق أي مصالح سياسية، الأمر الذي كان مقبولًا على مدى سنوات، واستمر تصنيف العملاق الآسيوي على أنه مجرد منافس اقتصادي. ولكن، يبدو أن بكين قررت التخلي عن إستراتيجيتها القديمة المعروفة باسم " إخفاء القدرات"، والمعروفة أيضًا باسم taoguang yanghui (韬光养晦). . إذ شاركت الصين، في الآونة الأخيرة، في مبادرات دبلوماسية، مثل خطة السلام الهادفة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا وكذلك التوسط في عملية تطبيع العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية، ما أثار مخاوف الغرب إزاء تصاعد القوة الدبلوماسية الصينية. ولطالما سعى المحللون إلى تحديد الدور الجديد الذي ستلعبه بكين استنادًا إلى المفاهيم التي صاغها ويليام فوكس والتي تخلص إلى أن الصين ليست قوة عظمى، لكنها مجرد قوة إقليمية نظرًا لعدم قدرتها على نشر قوات عسكرية خارج حدودها. مع ذلك، فإننا نجادل، على عكس نظريات العلاقات الدولية السائدة، بأنه في ظل النظام العالمي، الجديد قد تكون القوة الاقتصادية سلاحًا كافيًا لانتزاع النفوذ السياسي العالمي. وبعبارة أخرى، يختلف التعريف المعاصر للقوة العظمى عن التعريف الذي توصل إليه فوكس.
وفي ظل اتباع الخطة الشبيهة بــ” مشروع مارشال”، تعمل بكين على توسيع نفوذها الاقتصادي في جميع أنحاء العالم منذ سنوات. بعيد عن خلفيتها الآسيوية، وسعت الصين نطاق تفاعلها الاقتصادي مع العالم على مدى عقد من الزمان، ما أدى إلى زيادة صادراتها في كافة أرجاء المعمورة بشكل كبير على مدى سنوات؛ ويوضح الرسم البياني التالي زيادة الصادرات العالمية الصينية على مدى عقد من الزمان.
ولا تشمل الاستثمارات والعلاقات التجارية المناطق الأكثر تقدمًا مثل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل تحظى دول الجنوب نصيب وافر من تحركات الصين أيضًا. فعلى سبيل المثال، تلقت الدول الأفريقية حصة كبيرة من الاستثمارات الصينية ، وباتت تمثل الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا، وأحد أهم مُستثمريها في البنية التحتية، وأحد الدائنين الثنائيين لدولها، كما تُنتج الشركات الصينية ثُمن المنتجات الصناعية في القارة. وخلال التسعينيات، كان نفط القارة الأفريقية ومعادنها عناصر مهمة لتحقيق ازدهار الاقتصاد الصيني، لذا كانت العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا ذات أهمية قصوى بالنسبة للصين.
ولا تزال العلاقات الاقتصادية وفي الوقت الحالي مع أفريقيا ذات نفس القدر من الأهمية، لكنها بدأت تتخذ شكلاً مختلفًا يتمثل في التخلي عن المشاريع الضخمة والتوجه نحو التجارة والاستثمارات حيث توسعت الصادرات من الصين إلى الدول الأفريقية بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين لترتفع إلى حوالي 114 مليار دولار في عام 2020، مقارنةً بحوالي 5 مليارات دولار في عام 2002.
وفي ذات الإطار تُعتبر منطقة البلقان أيضًا نقطة محورية للاستثمارات الصينية، فعلى مدى السنوات الماضية، زادت بكين من استثماراتها في المنطقة حيث توضح الدراسات أنه بحلول عام 2021، بلغت القيمة التقديرية لعدد 122 مشروعًا صينيًا 31 مليار دولار والتي تشكل حوالي 40% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) في المنطقة، باستثناء كوسوفو، إذ تنظر بكين إلى المنطقة على أنها سوق لصادراتها وممر لأسواق أوروبا الغربية. وتمثل منطقة البلقان، وفقًا لأهداف المبادرة الصينية “الحزام والطريق”، منطقة هامة نظرًا لموقعها الجغرافي الإستراتيجي وقربها من أسواق الاتحاد الأوروبي.
وتعتبر الصين وافدًا جديدًا إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ لم تُدرج بعض دول المنطقة قبل عام 2021 في مبادرة “الحزام والطريق” التي أُطلقت في البداية بهدف ربط الصين بأوروبا برًا وبحرًا. وفي نفس العام، تواترت أخبار حول إقامة شراكة إستراتيجية شاملة مع إيران بقيمة 400 مليار دولار على مدار 25 عامًا. وعلى الرغم من سرية الأمر، كشفت معلومات مسربة أن هذه الشراكة تضمنت اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة والاقتصاد والتجارة والبنية التحتية والتعاون العسكري.
وفضلًا عن ذلك، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي نقطة محورية في المنطقة بالنسبة للصين نظرًا لاحتياجاتها إلى تعزيز أمن الطاقة لديها. وتستثمر بكين في دول الخليج من خلال تطوير الاتصالات السلكية واللاسلكية وبناء البنية التحتية اللذين يعتبران عنصران حيويان لتحقيق أهداف مبادرة الحزام والطريق.
وعلى عكس أغلب مُستوردي الطاقة الغربيين، تمكنت الصين من الاستفادة من علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي بفضل سياساتها في عدم التدخل. وفي الواقع، انعكس الاهتمام الصيني المتزايد بالمنطقة في القمة الصينية العربية التي عُقدت في الرياض في ديسمبر 2022، ما أثار جدلاً في العواصم الغربية. كما اتضح ذلك أكثر في إنشاء منتدى التعاون الصيني العربي (CASCF) في عام 2004 ومنتدى شنغهاي للتعاون (SCO) الذي يضم بعض دول المنطقة.
تواجه العواصم الغربية مخاوف مشتركة محددة تنبع من أن الصين تسعى إلى تحقيق تكامل اقتصادي متبادل مع الدول الأخرى مما يمهد الطريق لاعتماد تلك الدول اقتصاديًا علي، وبالتالي ستكتسب بكين بعض النفوذ السياسي مع الوقت، ونا يُلاحظ أن الصين تتبع نفس الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ خطة مارشال التي وُضعت عقب الحرب العالمية الثانية، لكن ثمة اختلاف أساسي بين الخطتين يتمثل في سعي الصين إلى تحقيق الترابط المتبادل من أجل المصالح الاقتصادية المشتركة. وفي هذا الصدد، على الأقل في المستقبل القريب، قد تعني التحركات الصينية أن التكهنات الغربية المتعلقة بالهيمنة السياسية التي تتحقق بعد التكامل الاقتصادي صحيحة على الرغم من عدم قدرة الصين على نشر قواتها العسكرية في أي مسرح حرب، وفي الآونة الأخيرة، أثار حدثان سياسيان الادعاءات المزعومة بشأن أهداف الصين في أن تصبح قوة عظمى، حيث برعت فيهما الصين في استخدام استراتيجيات الحياد سواء السلبي أو الإيجابي لتعزيز دورا كقوة عالمية، وفي ذات الوقت تُحافظ على مصالحها الاقتصادية.
يتمثل الحدث الأول في خطة السلام التي اقترحتها بكين لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. التي يجادل الكثيرون بأن بكين تحاول من خلالها كسب نقطة في منافستها المحتدمة مع الولايات المتحدة، إذ يدرك الرئيس الصيني شي جين بينغ على الأرجح أن خطة السلام لن تنجح وأن الغرب لن يقبل أبدًا الوساطة الصينية في هذا الشأن خاصةً أن الحرب في أوكرانيا ليست مشكلة إقليمية مثل التنافس بين إيران والسعودية الذي سمح الغرب للصين بلعب دور فيه. إذ تمثل الحرب في أوكرانيا أزمة دولية وسيتبوأ من يحلها مكانة عالمية مرموقة للغاية، وهي حقيقة أدركها الغرب بالفعل، وبالتالي لن يسمح أبدًا بإتاحة هكذا فرصة لمنافسه الآسيوي.
تمثل المصالح الاقتصادية الصينية إحدى النقاط الأساسية التي أغفلها بالفعل العديد من المحللين. ولن تتاخذ بكين أي موقف ضد أيٍ من الخصمين، إذ تتمتع بكين وموسكو بعلاقة استراتيجية نظرًا للحدود غير المتنازع عليها والاقتصادات التكميلية بينهما، كما تمثل الهزيمة الروسية في أوكرانيا التي تعجل بتنصيب حكومة موالية للغرب كابوسًا بالنسبة للصين. ومن ناحيةٍ أخرى، تعتبر العلاقات مع الغرب ضرورية لتحقيق الازدهار الاقتصادي والتقدم التكنولوجي. لهذا السبب، قررت بكين اتخاذ الحياد نجًا في تعاملها مع النزاع القاذم بينمها. وبالتالي، لا تمثل خطة السلام بالضرورة أداة لتحقيق أهداف سياسية، بل تحظى القضايا الإستراتيجية والاقتصادية بالأولوية عند صياغة أي مقترح.
يتمثل الحدث الثاني في الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين، والذي كان في الواقع مصدر جدل سياسي كبير حول مفهوم “النظام العالمي الجديد”. يمكن القول، مرةً أخرى، إنه في هذه الحالة بالتحديد، تلعب بكين نفس لعبة الحياد التي تستخدمها مع روسيا والغرب. ووجدت الدولة الآسيوية القوية مصلحتها الوطنية في تحقيق أي تهدئة بين الخصمين الخليجيين. تعتبر علاقات الصين الاقتصادية مع إيران والسعودية مهمة بالنسبة للأطراف الثلاثة، فعندما زار الرئيس شي جين بينغ الرياض في ديسمبر الماضي، اشتكى المسؤولون في طهران من اتخاذ بكين خطوات تُظهر انحيازها للسعوديين. على الرغم من عدم وجود الكثير لدى طهران لتفعله نظرًا لعزلتها الدولية، أقرت بكين بحقيقة أنه من الجيد استيعاب كلا الجانبين، وفي الواقع، من الأفضل حثهما على الجلوس معًا على طاولة التفاوض لإثبات أن موقف الصين إزاءهما يتسم بالحيادية.
يتبدى مما سبق إذًا أنه على الرغم من أن الصين ما زالت لا تحوذ قوة عسكرية تمكنها من ممارسة نفوذها في جميع أنحاء العالم، إلا أن الصينيين يحولون مسار مصالحهم من الاقتصاد الخالص إلى بعض السياسة والدبلوماسية، بغرض تعزيز مكانتهم العالمية دونما استخدام للقوة، وهنا يتجلى استخدام الصين ذراعها الاقتصادي كنقطة انطلاق نحو الابتعاد عن وضع القوة الإقليمية والتوجه نحو وضع القوة العظمى، إذ كان التدخل الصيني في الشرق الأوسط حدثًا غير مسبوق ليس فقط من منظور الوساطة بين خصين تاريخيين، بل لأنه أزال واشنطن عن مقعد الوسيط التي طالما احتلته في المنطقة لسنوات.
حتى أن الاستدلال على النفوذ الصيني المدفوع بالقوة الاقتصادية في المنطقة بات سهلًا ومؤيدًا بأدلة عديدة تبدأ من انضمام السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون (SCO). ثم أن تلتها إيران لتصبح عضوًا رسميًا في أبريل 2023، كما انضمت كل من مصر وقطر بالفعل بصفة شركاء الحوار.
أصبح من الواضح إذن أن بكين تستغل نفوذها الاقتصادي لاكتساب بعض القوة في المشهد السياسي. مع ذلك، هناك أحد الأسئلة الرئيسية التي لا تزال رهن الإجابة: هل الصين مستعدة لإجراء أي تدخل عسكري قد يكون ضروريًا لحفظ السلم في منطقة طالما اتسمت بعدم الاستقرار؟ على سبيل المثال، تدرك بكين أن التطبيع بين إيران والسعودية لا يقوم على أسس قوية. إذ ما تزال الحكومتان على حالهما، ولا يزال نظام الملالي في إيران يتصرف بالعقلية الطائفية المحافظة التي يتصرف بها دائمًا، مما يعني أن الأمور ستصبح معقدة مرةً أخرى عاجلاً أم آجلاً بين الدولتين الصديقتين مؤخرًا. وتكمن المشكلة في حقيقة أن الوضع قد يتصاعد مرةً أخرى في أي وقت، في حين أن الصين غير مستعدة لتقديم أي مساعدة عسكرية مما يجعلها قوة دبلوماسية بلا أنياب. ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القوة العسكرية الوحيدة المهيمنة التي بإمكانها الاضطلاع بهذا الدور.
وبالتالي، يمكن القول إنه في الوقت نفسه، لم تبزغ بكين كقوة عظمى بعد، على الأقل وفقًا للتعريف التقليدي لنظريات العلاقات الدولية، إذ لم تتحقق حتى الآن بعض الإمكانات الرئيسية اللازمة لتحقيق الهيمنة العالمية لدى الدولة الآسيوية. ومع ذلك، يلزم وضع أمرين في الاعتبار؛ أولهما إن استمر الوضع الراهن، سيدفع الصين إلى مصاف القوى المهيمنة عالميًا في القريب العاجل نظرًا لنفوذها السياسي الذي بدأ ينتج عن قوتها الاقتصادية، التي لا تتناقض على الإطلاق مع النهج الصيني الذي يحمل شعار “التنمية أولاً” حيث يُقدم هذا النهج التنمية على السياسة لكن لا يستبدلها به. أما الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه فهو أن الصين قد تُغير تعريف “القوة العظمى”، إذ قد لا تحتاج لتحقيق هيمنتها إلى نشر قاعدة عسكرية في كل منطقة، ربما يكفيها التمتع بالقوة الاقتصادية لتحقيق تلك الهيمنة وفقًا للنظام العالمي الذي تم تشكيله مؤخرًا.
تعليقات