قطع الرئيس المنتخب دونالد ترامب عهدًا على نفسه بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، لكنه لم يكشف بعد عما سيفعله للوفاء بهذا العهد. ويبدو أن التوصل إلى تسويةٍ عن طريق المفاوضات هو السبيل الوحيد الممكن لتحقيق هذه الغاية لأنه من غير المرجح أن يحقق أي من الجانبين نصرًا عسكريًا حاسمًا. وتواجه معظم الدول الغربية، وخاصةً الأوربية منها، العديد من التحديات الداخلية التي تُضعف موقفها ونفوذها على طاولة المفاوضات. وفي الوقت نفسه، تجد روسيا نفسها أيضًا في وضعٍ لا تُحسد عليه، ما يخلق فرصة سانحة لترامب لتشجيع الطرفين على التوصل إلى حلٍ للصراع الدائر بينهما، ولكن يلزم تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا حتى يؤدي أي اتفاق إلى سلامٍ دائم، ومن المرجح أن تكون تلك الضمانات بمنزلة المقايضة الرئيسية لأي تنازلات من المتوقع أن تقدمها أوروبا.
تكمن التحديات الرئيسية التي تواجه الدول الأوروبية في اعتمادها بصفة مستمرة على الطاقة الروسية حتى بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وعلى الرغم من تعهد تلك الدول بالاستغناء تمامًا عن جميع إمدادات الطاقة الروسية بحلول عام 2027، إلا أن التقدم نحو هذا الهدف يسير بخطوات بطيئة للغاية. وفي حين أن بعض الدول، مثل فرنسا، تسعى جاهدة للوفاء بهذا الالتزام، فإن دولًا أخرى، مثل المجر وسلوفاكيا، تتخذ مواقف مؤيدة لروسيا ولديها تحفظات بشأن معاقبة موسكو. ولا تتعلق هذه المواقف بالرغبة في الامتثال للالتزام المشار إليه فحسب، بل تنبع أيضًا من الثغرات الموجودة في نظام العقوبات، حيث أدت هذه الثغرات إلى ارتفاع واردات الطاقة الأوروبية من روسيا في عام 2024 مقارنةً بنظيراتها في عام 2023. كما لا يزال الغاز الروسي يشكّل عقبةً كبيرة أمام الجهود الأوروبية الرامية إلى تقليل الاعتماد عليه؛ فعلى الرغم من انخفاض إجمالي واردات الغاز الروسي بنسبة 8٪ في عام 2024 مع تحول دول مثل ألمانيا إلى أسواقٍ بديلة، لا تزال دول أخرى، مثل اليونان وإيطاليا، تعتمد بشكلٍ كبير عليه.
كما يمثل الغاز الطبيعي المسال عقبةً رئيسية أخرى أمام الجهود الأوروبية لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، حيث ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي المسال الروسي إلى 16.5 مليون طن متري في عام 2024 مقارنةً بـ 15.2 مليون طن متري في عام 2023. ولا تزال عدة دول مثل إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا تستورد الغاز الطبيعي المسال الروسي عبر الناقلات، ومن ثم يمتزج بعضه مع مصادر الغاز الأخرى في شبكة خطوط أنابيب الغاز الأوروبية. وبالتالي، قد يستمر وصول الغاز الروسي إلى ألمانيا على الرغم من جهودها الحثيثة للتوقف كليا عن الاعتماد على الطاقة الروسية.
وفي حين بدأ سريان العقوبات النفطية في عام 2022، إلا أن النفط الروسي يواصل دخول أسواق الاتحاد الأوروبي، وخاصةً الدول الموالية لروسيا مثل سلوفاكيا والمجر، بالإضافة إلى بلجيكا والنمسا وجمهورية التشيك وإن كان بكمياتٍ أقل. كما أن الوقود الأحفوري يتسلل إلى الأسواق الأوروبية في صورة منتجاتٍ نفطية عبر دولٍ ثالثة؛ فعلى سبيل المثال، استوردت دول الاتحاد الأوروبي 12.3 مليون طن متري من المنتجات النفطية من الهند والصين وتركيا، منها 4.8 مليون طن متري مشتقة مباشرةً من الخام الروسي. والجدير بالذكر أنه خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من المصافي الهندية الكبرى العاملة على النفط الخام الروسي بنسبة 58%.
لا يزال اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية يشكل تحديًا للدول الأوروبية على طاولة المفاوضات لأن بعضها لا يستطيع سد احتياجاته من الطاقة ويعتمد بشكلٍ كبير على الإمدادات الروسية؛ فعلى سبيل المثال، حينما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلغاء اتفاقية عبور الغاز عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية في محاولةٍ منه للضغط على روسيا، أثّر هذا القرار سلبًا على الدول الأوروبية الشرقية الحبيسة التي لا تستطيع استيراد الغاز الطبيعي المسال عن طريق البحر، كما عارضت النمسا والمجر وسلوفاكيا التي تعتمد بشكلٍ كبير على الغاز الروسي هذا القرار، مبررةً ذلك بضرورة توفير احتياجاتها الأساسية من الطاقة.
ولا تُعد تحديات الطاقة نقطة الضعف الوحيدة بالنسبة للدول الأوروبية على طاولة المفاوضات، ولكنها جزء من مجموعةٍ أوسع من الصراعات الداخلية؛ فعلى سبيل المثال، تصاعدت التوترات بين رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو وزيلينسكي بشأن اتفاقية نقل الغاز، وتطورت إلى اتهاماتٍ شخصية وادعاءات بالغطرسة وشن هجمات سيبرانية. وبشكلٍ عام، يواجه الاتحاد الأوروبي حالةً متزايدة من التشرذم مع اكتساب الزعماء الموالين لروسيا نفوذًا متزايدًا بين الدول الأعضاء، ولم يعد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي اعتُبِر لفترةٍ طويلة منبوذًا في السياسة الأوروبية، الوحيد في هذا المضمار. ومن المنتظر أن يصبح الزعيم النمساوي اليميني المتطرف هربرت كيكل، الذي أعرب صراحةً عن إعجابه بأوربان، المستشار المقبل للبلاد، كما أدى انتخاب بيتر بيليجريني لرئاسة سلوفاكيا إلى ترسيخ سلطة فيكو وزيادة نفوذه.
ولم تعد المشاعر اليمينية المتطرفة الموالية لروسيا مقتصرة على أوروبا الشرقية والوسطى، بل امتدت لتشمل بعض القوى الكبرى مثل فرنسا وألمانيا. وعلى الرغم من أن الانتخابات المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم تسفر عن أغلبية يمينية متطرفة، إلا أنها سلطت الضوء على النفوذ المتزايد للجماعات اليمينية المتطرفة على مستوى البلاد. وتشير التكهنات حول الانتخابات الرئاسية لعام 2027 في فرنسا إلى احتمال انتخاب رئيس موالي لروسيا من حزب التجمع الوطني، وهو الحزب المتهم بعلاقاته مع روسيا. وبالمثل، فإن نتائج انتخابات فبراير المقبلة في برلين قد تكون لصالح حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو الحزب المعروف أيضًا بعلاقاته المزعومة بموسكو. ومثل هذه التطورات تؤدي إلى زيادة الشروخ في جسد الاتحاد الأوروبي، وتقوض قدرته على اتخاذ موقف موحد في المفاوضات، خاصةً في ظل الانقسامات الداخلية الحادة حول العديد من القضايا مثل إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، وحلف شمال الأطلسي، والإنفاق الدفاعي.
لذا، أصبح الاتحاد الأوروبي في وضعٍ مزرٍ للغاية، وهي الحقيقة التي يبدو أن حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدركها تمامًا لدرجة أنه غيّر موقفه منذ ذلك الحين وحث الأوكرانيين على الانخراط في “مناقشاتٍ واقعية” بشأن النزاعات الإقليمية بعدما كان من أشد المؤيدين لإرسال قوات إلى أوكرانيا.
لا تقتصر معاناة الحرب على الأوروبيين فحسب، بل يشعر الروس أيضًا بآثارها الوخيمة، حيث تسببت الحرب في إضافة أعباءٍ اقتصادية ضخمة على بلادهم. ومنذ أن أطلقت روسيا “عمليتها العسكرية الخاصة” في أوكرانيا قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، تكبدت البلاد تكاليف باهظة للغاية، حيث أشار البنتاجون إلى أن تكلفة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بلغت ما يصل إلى 211 مليار دولار، إلى جانب خسائر تُقدَّر بـ 1.3 تريليون دولار أمريكي في النمو الاقتصادي المتوقع حتى عام 2026. وبعيدًا عن الأرقام، لم تقتصر خسائر روسيا على التكاليف المباشرة للحرب، بل امتدت لتشمل تجميد أصول بمليارات الدولارات بسبب العقوبات المفروضة عليها إلى جانب استمرار تراجع عائداتها النفطية والتجارية، ما أضعف اقتصادها بشكلٍ كبير، خاصةً في ظل هجرة العقول والعمال المهرة بأعدادٍ كبيرة. كما تجدر الإشارة أيضا إلى الخسائر البشرية التي مُنيت بها روسيا في ظل سقوط مئات الآلاف من الجنود بين قتيلٍ وجريح نتيجةً للتوغلات الجريئة التي تشنها أوكرانيا داخل الأراضي الروسية مثلما حدث في منطقة كورسك، والهجمات التي تنفذها باستخدام الطائرات المسيرة والتي تستهدف مواقع حيوية داخل روسيا، ما أدى إلى شعور العديد من الروس بالإرهاق من الحرب.
لكن هل هذا يعني أن بوتين مستعد للتنازل أم ماذا؟ منذ البداية، توقع بوتين هذه التحديات وتحمل المخاطرة عن طيب خاطر وهو يدرك تمامًا أن خصومه، أي دول الناتو والاتحاد الأوروبي، يواجهون مشاكل عدة أيضًا. وعلى عكس نظرائه الأوروبيين، لا يواجه بوتين أي ضغوطٍ داخلية لإنهاء الحرب لأنه على الرغم من أن الروس يرون أن ضرر الحرب أكثر من نفعها، إلا أن أغلبهم ما زالوا يعتقدون أن بلادهم لا ينبغي لها أن تتنازل في مفاوضاتها مع الغرب. وعندما سُئل الروس بشكلٍ مباشر عما إذا كان ينبغي لروسيا تقديم تنازلات معينة لأوكرانيا لإنهاء الصراع، قال 2 فقط من كل 10 إنه يجب على روسيا أن تفعل ذلك، بينما عارض ذلك 71% من المستطلعين. وكما هو الحال في استطلاعات الرأي السابقة، لا يزال الروس غير راغبين في التنازل عن أي من الأراضي الأوكرانية المحتلة لكييف. لذا، بينما يواجه بوتين صعوبةً في التكيف مع الوضع الحالي، فإنه لا يزال في وضعٍ أفضل من خصومه. ومع ذلك، أبدى الرئيس الروسي استعداده للجلوس على طاولة المفاوضات عندما طلب منه رئيس الوزراء السلوفاكي ذلك.
ولذا، من سيكون له اليد العليا في المفاوضات؟ على الرغم من أن البعض يشير إلى أن روسيا ربما تكون في موقفٍ أقوى من الأوروبيين، لكن يظل ثمة سؤال حول إمكانية تمهيد الطريق للسلام أو حتى إنهاء الحرب. وفي الواقع، لا تدعم الحسابات العقلانية هذه الفكرة بشكلٍ كامل لأنه من المرجح أن يعتمد مسار المفاوضات المقبلة على الدوافع الشخصية أكثر من الدوافع الاستراتيجية البحتة. ومن جهته، تعهد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بإنهاء الحرب، لكنه لم يوضح بعد خطته لتنفيذ ذلك. ولا شك في أن الشخصيتين الرئيسيتين في هذا السيناريو هما ترامب وبوتين، وقد تكون حنكة ترامب الفذة في المفاوضات هي العامل الحاسم في هذا الصراع. لذا، قد يستغل ترامب شدة معاناة الأوروبيين والروس من متاعب الحرب وتداعياتها لدفعهم نحو إنهاء الصراع، ويبدو أن هذا هو الوقت الأمثل للقيام بذلك نظرًا لأن الأوروبيين باتو في موقفٍ يقودهم إلى تقديم التنازلات.
مما لا جدال فيه أن الأوكرانيين يفتقرون إلى النفوذ اللازم على طاولة المفاوضات، ويبدو أن التطورات الأخيرة تدفع الرئيس زيلينسكي نحو قبول الوضع الراهن الجديد، حيث أعرب زيلينسكي في مقابلةٍ صحفية أُجريت معه مؤخرا عن ثقته في قدرة الرئيس ترامب على إنهاء الحرب، واصفًا إياه بأنه “قوي وقادر على إنهاء الحرب”. وعلى الرغم من أن نفوذ أوكرانيا قد يكون محدودًا، فلا ينبغي أبدًا للمفاوضين الغربيين تجاهل مطالبها، ليس فقط لأسبابٍ أخلاقية، بل لأسبابٍ استراتيجية أيضًا.
وإذا كان على أوكرانيا التنازل عن أجزاء من أراضيها، فمن الضروري ضمان عدم فقدانها المزيد من الأراضي في المستقبل. وفي حال تعثرت مساعي أوكرانيا في الانضمام إلى حلف الناتو في المدى القريب، سيبقى خياران؛ أحدهما هو نشر قوات أوروبية على طول حدود أوكرانيا مع روسيا لردع أي هجمات محتملة، لكن من غير المرجح أن يحظى هذا الخيار بدعمٍ واسع النطاق لأن العديد من الدول الأوروبية ستكون مترددة في المخاطرة بمواجهةٍ مباشرة مع روسيا. لذا، سيكون الحل الأكثر واقعية هو ديمومة تقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا لضمان استمرار قدرة قواتها على الدفاع عن وطنها. وعلى الرغم من أن الغرب لا يتفاوض من موقع قوة، عليه أن يدرك أيضًا أن روسيا تحت حكم بوتن تعاني من توترٍ شديد. لذلك، تُعد التسوية التي يقدم فيها الجانبان تنازلاتٍ متبادلة هي السبيل الوحيد العملي لإنهاء الحرب في ظل استحالة الحل العسكري وضبابيته.
ختامًا، ليس لدى الأوروبيين ولا الروس الكثير ليطرحوه على طاولة المفاوضات؛ فكلاهما منهك ويحتاج إلى إنهاء الصراع. ويبدو أن الحل الواقعي الوحيد يتلخص في تنازل أوكرانيا عن أراضٍ لروسيا، شريطة أن يكون هذا التنازل مصحوبًا بضمانات لأمن أوكرانيا لمنع وقوع المزيد من الخسائر في المستقبل، ما يترك عبئًا كبيرًا على عاتق ترامب الذي أُشيد بدوره في التوسط في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة. كما ينبغي لترامب باعتباره اللاعب الرئيسي في هذه المعادلة إقناع الجانبين بتقديم تنازلات سواء من خلال نهج “العصا والجزرة” الذي ألمح إليه، أو تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا إذا قاومت روسيا، أو حجب الدعم إذا رفضت أوكرانيا، أو باستخدام أي وسائل أخرى. لذا، سيكشف المستقبل ما إذا كان ترامب بفطنته السياسية قادرًا على الوفاء بوعده بإنهاء الحرب أم أن ثمة سيناريو آخر قد يلوح في الأفق.
El Baz, Lama, and Dina Smeltz. “Russians More Interested in Peace Talks with Ukraine, but Most Oppose Making Major Concessions.” Chicago Council on Global Affairs, October 9, 2024. https://globalaffairs.org/research/public-opinion-survey/russians-more-interested-peace-talks-ukraine-most-oppose-making.
Mertens, Alexander, and Marc R. DeVore. “Russia’s War Economy Is Hitting Its Limits.” Foreign Policy, December 23, 2024. https://foreignpolicy.com/2024/11/14/russia-war-putin-economy-weapons-production-labor-shortage-demographics/
Reuters. Explainer: What happens when Russian gas to Europe via Ukraine stops? | reuters, 2024. https://www.reuters.com/business/energy/what-happens-when-russian-gas-europe-via-ukraine-stops-2024-12-23/
Raghunandan, Vaibhav. “December 2024 – Monthly Analysis of Russian Fossil Fuel Exports and Sanctions.” Centre for Research on Energy and Clean Air, January 13, 2025. https://energyandcleanair.org/december-2024-monthly-analysis-of-russian-fossil-fuel-exports-and-sanctions/
Rij, Armida van. “The Pro-Putin Far Right Is on the March across Europe – and It Could Spell Tragedy for Ukraine | Armida Van Rij.” The Guardian, April 11, 2024. https://www.theguardian.com/commentisfree/2024/apr/11/putin-far-right-europe-ukraine-eu-slovakia-russian
تعليقات