كتب بواسطة

تدخل الحرب الروسية الأوكرانية شهرها الثامن عشر، دونما حسم واضح في اتجاه أحد الطرفين، أو حتى سيطرة استراتيجية أو عملياتية من أحدهما، تقربه من فرض موقفه على طاولة المفاوضات، الأمر الذي يُشير إلى أن الصراع قد يستمر لعدة أشهر أخرى على أقل تقدير قبل أن يتجه الطرفين إلى التهدئة، الوضع ذاته في غزة التي تدخل الحرب فيها شهرها الثامن -كأحد أطول الحروب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي رُبما باستثناء حربي تأسيس إسرائيل، والاستنزاف مع مصر- دونما اقتراب من أي حسم، أو حتى أفق يشير إلى أن طرفي الحرب على وشك الذهاب إلى التهدئة أو حتى أن أحدهما أو كلاهما بات راغب فيها، قد يكتمل عقد الحروب المُمتدة إذا اشتعلت الحرب بين الصين مع أحد جيرانها سواء في مضيق تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي بات غير مُستبعد في ظل انخراط الولايات المُتحدة في مُناوشات سياسية واقتصادية إقليمية ودولية تستهدف المصالح الصينية مُباشرة.

 

تجمع الحربين القائمتين وتلك المُتوقعة، خصيصتين -بالإضافة إلى أنها استغرقت أو قد تستغرق وقتًا أطول في الحسم مما كان متوقعًا- أولهما أنها تدور في مناطق ذات أهمية استراتيجية فائقة للعالم، سواء في السهل الأوروبي العظيم أحد أخصب أقاليم العالم وأغزر مناطق انتاج الحبوب فيه، أو في قلب الشرق الأوسط عند مُفترق طُرق التجارة العالمية ومسارات الطاقة. ثم أنهما أخيرًا لا تدوران بين دول أو أطراف مُنفردة، بل ضمن تحالفات أوسع، حيث ينخرط في الحرب الروسية الأوكرانية بشكل غير مُباشر كُلا من كوريا الشمالية وإيران إلى جانب روسيا، وحلف شمال الأطلسي إلى جانب أوكرانيا، فيما انخرط في حرب غزة إلى جانب إسرائيل كُلًا من الولايات المُتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإلى جانب حماس إيران، حزب الله، الحوثيين، وعدد كبير من الجماعات الشيعية في العراق وسوريا.

 

هاتين الخصيصتين طبعتا الحربين الجاريتين بخصائص تُشبه جُزئيًا وبشكل مُصغر خصائص الحربين العالميتين الأولى والثانية من حيث كثافة الاستهلاك النيراني وما يُصاحبه من كثافة الوفيات بين الأطراف المُتصارعة، أو من حيث طول خطوط الاشتباك، وبالتالي باتت الحربين تستهلكان كميات هائلة من الذخائر والأسلحة التقليدية وخصوصًا دانات المدافع، حتى استنزفت أو كادت مخزونات القوى المُنخرطة في الصراع، وبالتالي بات الإحلال محلها حتميًا، ما أوصل حرارة المعارك الدائرة إلى خطوط الإنتاج في المصانع، التي -في أغلب الأوقات- كانت غير قادرة على الوفاء باحتياجات  الجبهة أو أغراض إعادة استيفاء المخزون، ما أسفر في النهاية عن نُدرة شديدة في الذخائر على كل الجبهات لدى كُل الأطراف.

 

حولت هذه النُدرة الحرب إلى سلسلة من المعارك الصناعية يتفوق فيها الطرف ذا القُدرة الصناعية الأكبر، حيث يكون قادر على إمداد قواته بمزيد من الذخيرة التي تعطيها اليد الأعلى في المعركة، وبالتالي تحولت الصناعة بشكل مُباشر إلى أحد مُقومات الأمن القومي بمعناه شديد الضيق، لذلك تُحلل هذه الورقة انعكاسات القُدرة الصناعية على الحرب الروسية الأوكرانية من خلال سلاح المدفعية لدى الطرفين.

أولًا – أهمية المدفعية في حروب الاستنزاف

يقع سلاح المدفعية في القلب من خطط الدفاع والهجوم في ظل حروب الاستنزاف طويلة المُدة، حتى أن البعض يُطلق عليه king of war أو ملك الحرب، نظرًا للدور المحوري الذي يلعبه في دفع القوات الصديقة إلى الأمام، وإعاقة تقدم القوات المُعادية، والذي يُمكن تفصيله باختصار على النحو التالي:

 

في حالة الهجوم، تقوم المدفعية بثلاث أدوار رئيسية هي: تدمير دفاعات العدو Suppression of enemy defences: حيث تستهدف في هذه الحالة خنادق العدو ومخابئه وتحصيناته الأخرى، مما يعطل قدرته على الدفاع ويجعله أكثر عرضة لهجمات المُشاة، وثانيًا اختراق العوائق Breaching obstacles: إذ تُستخدم المدفعية لعمل فجوات في الأسلاك الشائكة أو حقول الألغام أو غيرها من العوائق، مما يفتح مسارات أمام القوات الصديقة للتقدم، وأخيرًا النيران المضادة: حيث تعمل المدفعية في هذه الحالة  على تحديد مواقع مدفعية العدو وتحييدها، وبالتالي تقليل قدرتها على إلحاق الضرر بالقوات المُهاجمة أو قمع تقدم القوات الصديقة، الأمر الذي يُعتبر بالغ الأهمية للسماح بالمناورة والتقدم بكامل صفوف وتشكيلات المُهاجم، يوضح الفيديو التالي أدوار المدفعية في حالة الهجوم:

كذلك في حالة الدفاع تقوم المدفعية بأدوار عديدة أهمها دفاع المنطقة area denial: حيث تخلق المدفعية مناطق إطلاق نار تجعل من الصعب على العدو حشد قواته أو المناورة خلالها، وبالتالي تُبطيء تقدمه وتكسب المُدافعين الوقت للاستعداد، كذلك تعمل كمُضاد للدروع  anti-armorعبر استهدافها دبابات العدو مركباته المدرعة الأخرى، إما بشكل مباشر أو عن طريق إطلاق ذخائر متخصصة مضادة للدبابات، تُعمل تأثيرها في منطقة مُعينة بحيث تُصعب عبور هذه القوات، وأخيرًا فإنها تلعب دور الحارس ذا اليد الطولى عند تقديمها الدعم لتعزيز النقاط الحصينة في الدفاعات وذلك بطريق تقديم الدعم الناري لمواقع دفاعية مُحددة، مما يعزز مقاومتها لهجمات العدو، يوضح الفيديو التالي الأدوار الدفاعية للمدفعية.

هذه الأدوار جعلت سلاح المدفعية محوريًا للعمليات على الجبهة الأوكرانية، في ظل خصائصها سابقت الذكر، وبالتالي باتت القوات المُتحاربة من الطرفين تستخدمه بكثافة شديدة، أدت لخلق فجوة في المُتاح من الذخيرة، وقطع غيار السلاح نفسه كما نستعرض في النُقطة التالية.

ثانيًا – حرب الاستنزاف في أوكرانيا وفجوة ذخيرة المدفعية

تعتمد حرب الاستنزاف على سلاح المدفعية بشكل رئيسي لتكبيد الخصم خسائر كبيرة لفترات طويلة بصفة مُستمرة، ويكون ذلك إما بالهجوم على معاقله أو كسر موجات هجومه، ومنعه من الوصول لأهدافه العملياتية، وبالتالي تتكلف حرب الاستنزاف في حالتي الهجوم والدفاع كميات كبيرة من الذخيرة، وكلما استمرت هذه الحرب لفترة أطول ارتفعت التكلفة خصوصًا إذا كانت تدور على مساحات واسعة مفتوحة، أو داخل مُربعات سكنية مُتكدسة في مساحة ضيقة تضع قيودًا على تنقل المدرعات، وبالتالي تضع مزيدًا من جنود الطرفين في المواجهة مُباشرة.

 

تنطبق الحالتين السابقتين على الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث يصل طول الجبهة في الأراضي الأوكرانية لنحو ألف كم وبعمق يصل في أقصى مداه إلى ١٠ كم وبالتالي انخرطت ومازالت على هذه الجبهة مئات الآلاف من المُعدات والجنود ومن ضمنها آلاف المدافع لنحو ثمانية عشر شهرًا متوالية، الأمر الذي استهلك مئات الآلاف من دانات المدفعية والذخيرة بشكلٍ عام وكلف خسائر تُقدر بآلاف الدبابات والمركبات المُدرعة والمدافع سواء في موجات الهجوم أو الدفاع على كلا الجانبين، في هذا الصدد امتلكت روسيا في عام ٢٠٢٣ ما يربو على ٨٣٠٠ مدفع، يُقابلها نحو ألفًا لدى أوكرانيا، أطلقت هذه المدافع ملايين القذائف خصوصًا من عيار ١٥٥مم مُنذ بداية الحرب بمُعدلات يومية تختلف التقديرات حولها، يصل متوسطها إلى نحو ٧٠ ألف دانة يوميًا من الجانب الروسي، ونحو ٢٠ ألف على الجانب الاوكراني، أي نحو ٢ مليون دانة على الجانب الروسي، ونحو ٦٠٠ ألفًا في أوكرانيا شهريًا، وذلك بإجمالي ٤٨.٧ مليون دانة مُنذ بداية الحرب .

 

يستنزف إطلاق هذه الدانات السلاح ذاته، خصوصًا فوهات المدافع Barrels والتي يصل متوسط استهلاكها إلى ٢٥٠٠ قذيفة لمدفع مثل الهاوتزر إم-٧٧٧، و٤٥٠٠ قذيفة لمدفع البانز ٢٠٠٠ ، الأمر الذي يعني أننا أمام استخدام لنحو ١٠ آلاف فوهة مدفع في حال بلغ مُعدل الاستبدال ٥ آلاف قذيفة/فوهة، وهو رقم أكبر من مجموع مما تمتلكه الدولتين من مدافع، مع مُلاحظة أن روسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث امتلاك المدافع، وبعدد يبلغ ضعف كوريا الجنوبية صاحبة المركز الثاني.

 

تعجز الدولتين عن إمداد قواتيهما بهذه الكميات الضخمة من الدانات والفوهات، حيث لا يُمكن لمُستويات إنتاجهما قبل الحرب مُنفردتين مواكبة هذا الاستهلاك الضخم، ما حثهما أولًا على رفع قدراتهما الإنتاجية حتى أن عددًا وافرًا من التقديرات يُشير إلى ارتفاع قدرات الإنتاج الروسية من مُستوى مليون دانة قبل الحرب إلى ٢ مليون في الوقت الحالي، مع استهداف السُلطات الروسية رفعها إلى ٤.٥ مليونًا رُبما بنهاية عام ٢٠٢٤ ، ما يُشير إلى حجم النيران الذي تتوقع السلطات الروسية إطلاقه بحلول نهاية العام الجاري دونما حسم للمعركة، أما أوكرانيا فقد كانت قدراتها على الإنتاج قبل الحرب معدومة تقريبًا، لتعتمد البلاد في الفترة الأولى من الحرب على مخزونها من الذخيرة التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، ثم تدخل عملية الإنتاج الذاتي، ليصل إنتاجها في شهر يوليو ٢٠٢٣ مُنفردًا، لأكثر مما انتجته قبل الحرب خلال العام كاملًا .

 

قدرات التصنيع الذاتي المحدودة -بالنسبة للاستهلاك- حثت القوتين على طلب الدعم من “المُعسكرين” الذين تنتميان إليهما، حيث لجأت روسيا إلى كوريا الشمالية لاستيراد ما يُقدر بخمسة ملايين قذيفة في عشرة آلاف حاوية معيارية ، كذلك قدمت إيران مُساعدات يُفترض أنها محورية وشديدة التأثير سواء في خصوص قذائف المدفعية أو المُسيرات لكن بدون أرقام رسمية أو تقديرات يُمكن التعويل عليها. من ناحية أخرى، تعتمد أوكرانيا بشكل كبير على الذخيرة المستوردة، في المقام الأول من الولايات المتحدة التي قدمت ملايين الدانات من عيار ١٥٥ ملم، فيما تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم مليون دانة، كذلك نجحت أوكرانيا في تأمين بضع عشرات آلاف الدانات كُمساعدات من بولندا وجمهورية التشيك وغيرها، بالإضافة إلى المشتريات من باكستان أو من المخزون البُلغاري من قذائف الحقبة السوفيتية ، توضح الخريطة التالية الدعم العسكري المُعلن لأوكرانيا:

 

 

تدخل المُعسكرين لما يكن كافيًا لسد فجوة الذخيرة خصوصًا على الجانب الأوكراني الذي صرح وزير دفاعه خلال مارس الماضي بأنه يُعاني انخفاضًا شديدًا في المُتاح من ذخيرة المدفعية، مما فرض على قواته خفض مُعدلات إطلاقها من ذخيرة المدفعية إلى ١١٠ ألفًا شهريًا، في ظل احتياجه إلى نحو ٦٠٠ ألف قذيفة للوصول إلى أقصى إطلاق نيراني أو أفضل أداء عملياتي خلال المرحلة الحالية، أو على الأقل ٣٥٦ ألفًا للوصول للحد الأدنى من الكفاءة العملياتية، وبالتالي فقد طالب الاتحاد الأوروبي بتوفير نحو ٢٥٠ ألف قذيفة شهريًا، وأن توفر الولايات المُتحدة على الأقل ١٠٦ ألفًا من جانبها، وذلك للوصول إلى أقل أداء متصور على الجبهة يستطيع أن يمنع القوات الروسية من التقدم ، الأمر الذي يعني وجود فجوة على الأقل بنحو ٢٥٠ ألف دانة لدى القوات الأوكرانية، يوضح الشكل التالي مُستويات الأداء الأوكرانية في ظل تصريحات وزير الدفاع الأوكراني:

 

 

سيتجه العجز الأوكراني على الأرجح إلى الاتساع بمرور الوقت، وذلك بسبب تباطؤ الإمدادات من المُعسكر الغربي، وفي ذات الوقت ازدياد وتيرة الهجوم الروسي، واتساع مداه جغرافيًا، في ذات الوقت التي استُنزفت فيه المخزونات الغربية، حيث أعلن أعلى مسؤول عسكري في الناتو نصًا أن ” the bottom of the barrel is now visible “، أو أن مخزونات الذخيرة باتت على وشك النفاذ ، يصاحب هذا الاستنزاف انخفاض شديد في القدرات الإنتاجية، حيث كانت القوى الغربية ركزت اعتمادها في المعارك على القوة الجوية، بسبب انخراطها خلال العقود الثلاثة الماضية في نمط مُختلف من الحروب وهي الحروب الخاطفة قصيرة المُدة، التي تعتمد بشكل مُكثف على عدم الاشتباك الأرضي والاكتفاء بتوجيه ضربات مُركزة من الجو ، مما قلل الاعتماد بشكل واضح على المدفعية ، وهو عكس الحال مع القوات الروسية التي ظلت تعتمد على المدفعية بشكل أساسي، بل وتعتبرها عنصرًا أساسيًا من عناصر المعركة الروسية ، لذلك أبقت على مصانعها ومخزونتها من دانات المدفعية قائمة، وإن كان مُعظمها يعود للحقبة السوفيتية، ما يجعلها غير دقيقة، وفاقدة للتطورات التي دخلت على الذخيرة مُنذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي .

 

يبدو المشهد إذن على الجبهة الأوكرانية ضاغطًا على الجانبين اللذين استنفذا كميات هائلة من الذخيرة والمُعدات والأفراد دونما حسم، حتى باتا غير قادرين على استكمال المعركة خصوصًا على الجانب الأوكراني الذي لا يستطيع تأمين ذخيرة أدني حد من الكفاءة القتالية دونما مُساعدة خارجية، في حين أن المُعسكر الذي ينتمي إليه لا يستطيع الإمداد -في ظل قدراته الصناعية الحالية- بالقدر الكافي حتى للوصول للحد الأدنى من المُتطلبات الأوكرانية، الأمر الذي سنفصله في النُقطة التالية.

ثالثًا – عدم انتظام سلاسل إمداد الذخيرة لدي القوى الغربية

يُرد العجز في القُدرة إذن إلي عدم كفاية خطوط الإنتاج لدى الجانبين في الوقت الحالي وفي المدى المتوسط لدى الجانب الغربي، والذي -كما سبقت الإشارة- يواجه مُعضلة في إعادة تنشيط خطوط إنتاجه من الذخيرة بشكل عام وخصوصًا دانات المدفعية، خصوصًا بعد عمليات الإغلاق التي استمرت بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك بسبب انخفاض التهديدات المُتوقعة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفتت قواه العسكرية، وانقسامه لعدد من الدول، ما غيب مُنافس حقيقي أو خصم قوي عن الساحة الدولية خلال العقدين الأخير من القرن الماضي والأول من القرن الحالي .

 

من جانب أخر تحولت العقيدة العسكرية كُليًا عن سلاح المدفعية وذخائره التي أعتبرها الغرب “غبية” ومُكلفة، حيث كانت تُركز التكتيكات العسكرية قبل الحرب الباردة على استخدام الجيوش الضخمة والفرق المدرعة والمدفعية الثقيلة، مع دور مركزي للردع النووي في التفكير الاستراتيجي، لتُركز على التهديدات غير المتكافئة مثل الإرهاب والتمرد والصراعات الإقليمية، مما تطلب تطوير استراتيجيات وتكتيكات جديدة للتعامل مع الجهات الفاعلة من غير الدول والحروب غير التقليدية، وتزامن ذلك مع التقدم التكنولوجي الذي أدى إلى تطوير ذخائر دقيقة التوجيه وأنظمة أسلحة عالية التقنية، مما سمح بضربات أكثر دقة وتقليل الأضرار الجانبية، وتحويل التركيز بعيدًا عن القوة النارية الضخمة.

 

أخيرًا تزايدت أهمية المعلومات في العمليات العسكرية ليظهر مفهوم تترابط خلاله القوات عبر شبكة مشتركة لتحسين الاتصال والتنسيق وصنع القرار. ومع بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، زاد التركيز على نشر القوات بسرعة في أي مكان في العالم، مما استدعى تطوير قدرات لوجستية ونقل جديدة، لا تتناسب مع المدفعية وذخائرها ووزنها الضخم، ولعل من أبرز الأمثلة على هذا التحول، مبدئ باول التي أكدت على استخدام القوة الساحقة لتحقيق نصر حاسم غير مُكلف، ومبدئ رامسفيلد التي دعت إلى استخدام قوات أصغر وأكثر مرونة وتكنولوجيا متقدمة.

 

أدت مُحصلة العوامل السابقة إلى اتجاه الغرب لإغلاق مصانعه لذخيرة المدفعية، أو إعادة هيكلتها وتصغير حجمها، خلال العقود الثلاثة الماضية، ويستعرض الجدول التالي أمثلة على بعض أهم مصانع الذخيرة التي تأثرت خلال تلك الفترة:

 

 

يوضح الجدول حالة الإغلاقات التي تمت، حيث لم يجر فقط غلق هذه المصانع بل وجرت تصفيتها بالكامل بدء من خطوط الإنتاج وحتى الأرض نفسها، بما يشرح صعوبة إعادة ادخلها عملية الإنتاج بسرعة أو في المدى القصير، حيث تستلزم إعادة الإنتاج في بعض الأحوال تشييد مصانع جديدة كُلية، أو تطوير خطوط الإنتاج القائمة، وهو ما يقتضي طلب خطوط إنتاج جديدة، وفي بعض الأحيان حتى مع وجود المصانع قائمة، فإن سلسلة التوريد لها غير موجودة، وبالتالي فإن الأمر من ناحية أخرى يستلزم إعادة تشييد سلسلة إمداد كاملة للمُدخلات وصولًا للمُنتج النهائي، ويوضح الجدول التالي مُخطط توسيع الإنتاج دانات مدفعية عيار ١٥٥مم للغرب فعلًا وفقًا للمدى الزمني المُعلن للتطوير:

 

 

يتضح من الجدول، بطيء عملية رفع القدرات، حيث تتخذ عملية الرفع سنوات عديدة، ففي عام ٢٠٢٨، سيصل كامل الإنتاج الأمريكي خلال العام إلى نحو ١.٢ مليون دانة، وهو أقل من استخدام أوكرانيا عند الحد الأدنى للكفاءة العملياتية خلال عام ٢٠٢٣ في أربعة أشهر، الأمر الذي دفع الولايات المُتحدة لتدشين عدد جديد من مصانع أهمها الذي تديره شركة General Dynamics Ordnance and Tactical Systems، هو أول مصنع أسلحة رئيسي جديد للبنتاجون يتم بناؤه منذ بدء الحرب، ومن المتوقع أن ينتج ٣٠ ألف قذيفة شهريًا بمجرد وصوله إلى طاقته الكاملة، يهدف البنتاجون إلى إنتاج ما يصل إلى ١٠٠ ألف قذيفة مدفعية شهريًا بحلول نهاية عام ٢٠٢٥ ، من خلال الجمع بين إنتاج هذا المصنع الجديد والمنشآت الموجودة في ولاية بنسلفانيا، ما يوضح حجم المُعاناة التي ستوجهها القوات الأوكرانية في الظل النقص الحاد من الذخيرة.

 

ما يزيد الانتاج بطيء أن سلسلة التوريد ذاتها والتي تتكون من مرحلتين قبل خروج المُنتج النهائي غير مُنتظمة، تبدأ المرحلة الأولى التي تبدأ باستخراج وتعدين المواد الداخلة في عملية الإنتاج مثل النيتروجين، والكبريت، بوتاسيوم، الفسفور وخلافها فإن مُعظم مناطق الاستخراج الرئيسية تقع خارج الدول الغربية، وبالتالي يجب نقلها في الغالب عبر البحر في حاويات، ما يُعقد عملية الإمداد بسبب الاحتقان الضاغط على عمليات الشحن تحت ضغط أزمة البحر الأحمر، وانغلاق باب المندب أمام التجارة بما يُضيف ٤٥٪ على أوقات الشحن، توضح الخريطة التالية أهم ٥ مُنتجين لبعض أهم المعادن الدخلة في عملية التصنيع:

 

 

أما المرحلة الثانية والتي يُنتج خلالها المكونات الداخلية للدانة أو ما يُطلق عليه Energetics: التي تُنتج من المعادن السابقة لتتحول إلى مواد مُتفجرة Explosives، ومواد دافعة Propellants، وتركيبات الاحتراق Pyrotechnics، فإنه ابتداء لا يتواجد لها مُنشآت تصنيع بالقدر الكافي لمجاراة الطلب الحالي أساسًا، وحتى المُنشآت المتاحة لا تستورد بعض مُدخلاتها من خارج الغرب في العموم، خصوصًا الصواعق الكهربائية Electric detonators أو رؤوس التفجير Detonating caps، الأمر الذي يحتاج معه حال زيادة الاستيراد إعداد مُنشآت أكبر ذات موصفات خاصة لعملية التخزين، ما يُضيف تحدي أخر وهو تشدين هذه المُنشآت ذاتها، بالإضافة إلى كون الإنتاج العالمي المُتاح للتصدير غير كاف، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يوضح الشكل ارتفاع صادرات اثنتين من أهم المكونات الداخلية للدانات بعد الروسية الأوكرانية بنحو ٤٠٪، وسواء في عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، وذلك بسبب ارتفاع الطلب مع توافر الكميات المُناسبة من المعروض، خصوصًا وأن المُعسكرين باتا يمسحان العالم بحثًا عن هذه المكونات، فضلًا عن الدانات كاملة التصنيع كما سبقت الإشارة.

 

خُلاصة ما سبق إذن أن الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت شهرها الثامن عشر، قد تستمر لعدة أشهر أخرى، في ظل عدم قدرة أي من الطرفين على الحسم، خصوصًا مع اتساع فجوة الذخيرة التي ستواجهها القوات الأوكرانية في المُستقبل، في ظل عدم قدرة المُعسكر الغربي على تلبية احتياجاتها، بسبب عدم انتظام سلاسل الإمداد لديه، وضعف القدرات التصنيعية، الأمر الذي يُنذر بتحول الحرب إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، قد تُحسم على خطوط الإنتاج قبل الجبهات، خصوصًا مع تباطؤ عمليات إعادة بناء القدرات التصنيعية لدى الغرب، وتسارع وتيرة المعارك على الأرض، التي تستهلك كميات هائلة من الذخيرة، لا يُمكن تعويضها في الأمد القصير أو المتوسط.

 

يُمكن القول إذن إن الحرب التي بدأت كحرب خاطفة، تحولت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، ستعيد تشكيل النظام العالمي، وستفرض على القوى الغربية إعادة النظر في عقيدتها العسكرية، وسياساتها الدفاعية، وتحديدًا فيما يتعلق بالقدرات الصناعية، وإعادة بناء سلاسل الإمداد، بما يضمن عدم الوقوع في فجوة الذخيرة مرة أخرى، خصوصًا في ظل التوترات المتصاعدة في مناطق أخرى من العالم، مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، التي قد تشهد حروبًا مماثلة في المستقبل القريب، تتطلب قدرات تصنيعية عالية، وسلاسل إمداد فعالة، وقدرة على الحسم السريع، لتجنب الوقوع في فخ حروب الاستنزاف المُكلفة، التي قد تُرهق الاقتصادات، وتُهدد الأوضاع الأمنية في العالم.

المراجع

Riley Baily, Et.al, Russian offensive campaign assessment, ISW, Jul 16,2024, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://www.understandingwar.org/sites/default/files/July%2016%2C%202024%2C%20Russian%20Offensive%20Campaign%20Assessment%20PDF.pdf

 

Andy Bounds, Ukraine asks EU for 250,000 artillery shells a month, Financial Times, 3rd March, 2023, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://www.ft.com/content/75ee9701-aa93-4c5d-a1bc-7a51422280fd

 

Murray Brewster, Canada will send $9M worth of howitzer replacement barrels to Ukraine, CBC, 16th Jun 2022, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://www.cbc.ca/news/politics/canada-sending-howitzer-barrels-nine-million-1.6489402

 

John Hardie, Russian Munitions Production Higher But Still Insufficient, FDD, 18th Jan, 2024, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://www.fdd.org/analysis/op_eds/2024/01/18/russian-munitions-production-higher-but-still-insufficient/

 

Kateryna Denisova, Shells previously designated as expired brought back into service Defense Ministry says, The Kyiv Independent, 16th July, 2024, , Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://kyivindependent.com/army-receives-shells-supposed-to-be-disposed-by-ukraine/

 

Soo-Hyang Choi, North Korea Sent Russia Millions of Artillery Shells, South Korea Says, Time, 14th Jun, 2024, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://kyivindependent.com/army-receives-shells-supposed-to-be-disposed-by-ukraine/

 

Sam Skove, Import records illuminate Ukraine’s desperate hunt for arms and ammo, 1st Nov, 2023, Accessed: 17th Jul 2024, Available at: https://www.defenseone.com/business/2023/11/import-records-illuminate-ukraines-desperate-hunt-third-party-arms-and-ammo/391686/

 

Andy Bounds, Ukraine asks EU for 250,000 artillery shells a month, Financial Times, 3rd March 2023, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://www.defenseone.com/business/2023/11/import-records-illuminate-ukraines-desperate-hunt-third-party-arms-and-ammo/391686/

 

James Landale, Ukraine war: Western allies say they are running out of ammunition, BBC, 3rd October 2023, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://www.bbc.com/news/world-europe-66984944

 

Saunders, R. J. and Souva, M. (2019). Command of the skies: an air power dataset. Conflict Management and Peace Science, 37(6), 735-755. https://doi.org/10.1177/0738894219863348

 

Osinga, F. (2021). Postmodern air power and the western way of war. Handbook of Military Sciences, 1-20. https://doi.org/10.1007/978-3-030-02866-4_18-1

 

Sam Cranny-Evens, Russia’s Artillery War in Ukraine: Challenges and Innovations, 9th August 2023, RUSI, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/russias-artillery-war-ukraine-challenges-and-innovations

 

Paul Schwennesen, Eyewitness to war: The Russia-Ukraine ammunition gap, GIS, 7th June, 2024, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://www.gisreportsonline.com/r/russia-ammunition/

 

Meijer, H. L. (2010). Post-Cold War trends in the European defence industry: Implications for transatlantic industrial relations. Journal of Contemporary European Studies, 18(1), 63-77.

 

Tyler Koteskey, Reflecting on the ‘Powell Doctrine’ and why we should revive it, Responsible Statecraft, 19th March 2022, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://responsiblestatecraft.org/2022/03/19/reflecting-on-the-powell-doctrine-and-why-we-should-revive-it/

 

Michael E. O’Hanlon, A Reality Check for the Rumsfeld Doctrine, 29th April, 2003, Brookings, Accessed: 18th Jul 2024, Available at: https://www.brookings.edu/articles/a-reality-check-for-the-rumsfeld-doctrine/

 

John Ismay, Pentagon Opens Ammunition Factory to Keep Arms Flowing to Ukraine, The New York Times, 29th may 2024, Accessed: 18th  Jul 2024, Available at: https://www.nytimes.com/2024/05/29/us/pentagon-ammunition-ukraine-russia.html

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *