كتب بواسطة

لطالما كان جنوب سوريا مهدًا للحضارات العريقة ومفترقًا تتقاطع فيه دروب التاريخ بحكم موقعه الاستراتيجي الفريد، لكنه اليوم أضحى ساحةً لفوضى عارمة، تتقاذفه رياح التحولات العنيفة، ويكتنف مستقبله ضبابٌ كثيف من الغموض. وفي خضم التجاذبات المتصاعدة بين القوى الإقليمية والدولية، ومع تنامي النفوذ الإسرائيلي بجرأةٍ متزايدة، يجد هذا الإقليم نفسه عند منعطف مصيري، حيث تتداخل الأطماع والتحديات في مشهدٍ يترقب ملامح المستقبل بقلقٍ متزايد. ويخيم الغموض على هذا المشهد، مسدلًا ستارًا كثيفًا على المآل البعيد لهذا الإقليم الذي يتخبط في أتون حكمٍ متشظٍّ، وتحولاتٍ ديموغرافية متسارعة، وتهديدٍ محدق بمزيد من التشرذم والانقسام. وبينما تتزاحم القوى الإقليمية والدولية على بسط نفوذها واقتناص مكاسبها، تمضي الأطماع التوسعية الإسرائيلية في جنوب سوريا براحةٍ مُقلقة، مُسترشدةً باستراتيجية مُمنهجة وأهداف بعيدة المدى. لكن هذا التوسع لا يقتصر على الجغرافيا وحدها، بل يشمل إعادة تشكيل نسيج جنوب سوريا برمّته، مؤثرًا في تكوينه الاجتماعي والديموغرافي، ومحولًا إياه إلى ساحة مضطربة لصراعاتٍ إقليمية بالوكالة. وفي المقابل، تقف الدولة السورية، المُتمركزة شكليًا في دمشق، مثقلةً بانقساماتها الداخلية العميقة وعاجزةً عن بسط نفوذٍ فعّال، ما قد يفتح الباب أمام سيناريوهات وخيمة تُلقي بظلالها على الوحدة الهشة للبلاد وتهدد ما تبقى من سيادتها. لذا، يسعى هذا التحليل إلى سبر أغوار هذه التحولات المعقدة، ليكشف ملامح الاستراتيجية المحسوبة التي تنتهجها إسرائيل، ويستقصي مكامن الوهن الداخلي في سوريا، ويستشرف المخاطر المحدقة بمصير هذه المنطقة، التي رغم أهميتها الاستراتيجية، باتت تتأرجح على حافة الهشاشة والتفكك.

التوسع الإسرائيلي المُريح

يُجسد وصف “الزحف المريح” للتوسع الإسرائيلي واقعًا مقلقًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث تمضي إسرائيل في ترسيخ وجودها جنوب سوريا بسلاسةٍ تامة، دون مقاومة تذكر أو ردع فعّال. ولم تأتِ هذه السهولة من فراغ، بل هي ثمرة استراتيجية محكمة وممنهجة، تنبثق من أهداف واضحة وطويلة الأمد، وتتسم بالتخطيط الدقيق والتوجيه المدروس. ولا يقتصر التوسع الإسرائيلي في هذا السياق على كونه مجرد رد فعل تكتيكي إزاء تهديدات آنية، بل يتجسد كنهجٍ استراتيجي محسوب ومتعدد الأبعاد يسعى إلى ترسيخ العمق الاستراتيجي لإسرائيل، وتأمين مواردها الحيوية، وإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بشكلٍ جذري لصالحها.

 

ويتخذ هذا “الزحف المريح” أشكالًا متعددة ومترابطة، إذ يهدف أولًا، وقبل كل شيء إلى توسيع نطاق المنطقة الأمنية في هضبة الجولان، ما يعني عمليًا ضم المزيد من الأراضي السورية تحت ذريعة الدفاع عن النفس. ولا يقتصر هذا التوجه على تأمين الحدود فحسب، بل يمتد ليشمل إنشاء منطقة عازلة، وتحييد التهديدات المحتملة، وترسيخ وجود دائم في هذه البقعة الاستراتيجية، بما يضمن لإسرائيل تفوقًا أمنيًا وسياسيًا طويل الأمد. ثانيًا، تتضمن هذه الاستراتيجية بناء علاقات مع الفاعلين المحليين، بما فيها مختلف الجماعات المسلحة والمجتمعات المحلية في جنوب سوريا، ما يسهم في بناء شبكة من الوكلاء والمخبرين الذين يخدمون المصالح الإسرائيلية. وتتيح هذه الاستراتيجية لإسرائيل بسط نفوذها وجمع المعلومات الاستخبارية في عمق الأراضي السورية، دون الحاجة إلى نشر أعداد كبيرة من قواتها، ما يقلل المخاطر ويُعزز نطاق العمليات. ثالثًا، تنطوي هذه الاستراتيجية على استغلالٍ دقيقٍ ومستمرٍّ للموارد الحيوية، وفي مقدمتها الموارد المائية في مرتفعات الجولان والمناطق المحيطة بها، ما يعمق السيطرة الإسرائيلية ويزيد من تفاقم ندرة الموارد الشحيحة بالفعل في سوريا. وتُشكّل هذه الممارسات، التي تُنفّذ مجتمعة، استراتيجية منهجية وطويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل جنوب سوريا بشكلٍ جذري، بما يخدم الأهداف الاستراتيجية والأمنية لإسرائيل، ويعزز قبضتها على الموارد الحيوية. وعلى أرض الواقع، تعكس “الراحة” التي تمضي بها هذه التوسعات غياب استراتيجيات مضادة فعّالة من دمشق أو حلفائها، فضلًا عن بيئة إقليمية ودولية تشعر فيها إسرائيل بالثقة الكافية لتنفيذ أهدافها دون رادع يذكر.

زلازل ديموغرافية

يُخلّف التوسع الإسرائيلي، بالتوازي مع الصراع السوري المستمر، آثارًا عميقة ومدمرة على التركيبة الديموغرافية والتوازن الإقليمي في جنوب سوريا. ويجسد “تفجير التركيب الديموغرافي” التداعيات الكارثية التي تعصف بالنسيج الاجتماعي الهش في المنطقة، حيث يؤدي طول أمد الصراع، مقترنًا بالتدخلات المستهدفة والتلاعبات الجيوسياسية، إلى نزوحٍ قسري، وتوترات طائفية متفاقمة، وإعادة تشكيل ممنهجة للنظام الاجتماعي القائم. وفي هذا السياق المضطرب، تواجه جماعات اللاجئين الفلسطينيين في جنوب سوريا واقعًا أشد قتامة، إذ يجدون أنفسهم عالقين بين نيران الفصائل المتناحرة، وعرضةً لموجات تهجير جديدة تفاقم معاناتهم المستمرة وتعمّق مأزقهم الإنساني. وقد تأثرت المجتمعات العربية السنية، التي شكلت تاريخيًا الأغلبية الديموغرافية في العديد من مناطق جنوب سوريا، بشكل غير متناسب من الصراع، حيث تعرض العديد منهم للتهجير أو التهميش، ما أسفر عن اختلالات ديموغرافية وأدى إلى تأجيج المظالم الطائفية. ومن جهة أخرى، تشير عدة تقارير إلى وجود هندسة ديموغرافية في بعض المناطق، يُحتمل أن تهدف إلى تعزيز وجود الجماعات المتحالفة مع الفاعلين الخارجيين، ما يزيد من تفتيت المشهد الاجتماعي ويقوّض أي احتمال للتماسك الاجتماعي في المستقبل.

 

ويؤدي هذا الاضطراب الديموغرافي بشكلٍ مباشر إلى “تفكك” السيطرة الإقليمية، إذ تجد الدولة السورية، التي أنهكتها سنوات الحرب الأهلية وتآكلت شرعيتها في العديد من مناطق الجنوب، نفسها عاجزةً بشكلٍ متزايد عن فرض سيطرتها على المجتمعات والأراضي المتشرذمة. وفعليًا، باتت السيطرة الإقليمية تنزلق بعيدًا عن قبضة دمشق، متجهةً نحو فسيفساء معقدة من الجماعات المسلحة المحلية، والميليشيات القبلية، والفاعلين الخارجيين الذين يعززون نفوذهم عبر وكلائهم. ويؤسس هذا المشهد المجزأ لبيئة حاضنة لمزيد من الفوضى وغياب القانون، ويفتح الباب أمام صراع طويل الأمد تتعاظم فيه المخاطر. ومع غياب سلطة مركزية شرعية وفعالة، تجد القوى الخارجية، وعلى رأسها إسرائيل، الفرصة سانحة لترسيخ نفوذها، واستغلال الموارد، وفرض أجنداتها الخاصة دون رادع، ما يرسّخ دوامة عدم الاستقرار، ويقوض أي آمالٍ في تحقيق الوحدة الوطنية في سوريا أو الحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها.

منافسة في الجنوب

يُسلّط التنافس التركي الإسرائيلي في جنوب سوريا الضوء على بُعدٍ مهم، وإن كان أقل وضوحًا، في موازين القوى الإقليمية المؤثرة. فعلى الرغم من أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يظل في صدارة المشهد عند تناول دور إسرائيل في المنطقة، فإن تطوّر العلاقة بين إسرائيل وتركيا، خصوصًا في السياق السوري، يضيف بُعدًا جديدًا من التعقيد، ويفتح المجال أمام مزيد من الاضطراب. ورغم فترات التوتر الدبلوماسي والتباين في المصالح الجيوسياسية، تبقى كل من تركيا وإسرائيل فاعلين رئيسيين في المشهد الإقليمي، لكلٍّ منهما استراتيجيته الخاصة تجاه سوريا، وإن كانت هذه الاستراتيجيات تسير في مسارات متباينة. فتركيا، بعلاقاتها التاريخية مع المنطقة وطموحها في بسط نفوذها في محيطها القريب، رسّخت وجودها العسكري في شمال سوريا، وتتحرك بخطوات متسارعة نحو توسيع نفوذها جنوبًا. وفي المقابل، تعمل إسرائيل، مدفوعةً بمخاوفها الأمنية وأهدافها الاستراتيجية، على ترسيخ هيمنتها في جنوب سوريا، مستهدفةً منع أي تموضع لقوى معادية أو وكلاء مدعومين من إيران على مقربةٍ من حدودها.

 

ويتجلى هذا التنافس الخفي بين تركيا وإسرائيل في صورٍ شتى، تتراوح بين السعي للنفوذ على الجماعات المحلية السورية، ودعم الفصائل المتنوعة أو حتى تأليبها ضد بعضها بعضًا. ويتسع هذا التنافس ليشمل صراعًا على الأراضي والموارد الاستراتيجية، خصوصًا في المناطق الحدودية وطرق النقل الحيوية. كما يتزايد في الساحة الإعلامية والدبلوماسية، حيث يسعى كل من البلدين إلى صياغة السرد المؤثر على الصراع السوري والتأثير على التصورات الدولية لدورهما فيه. ورغم أن المواجهة العسكرية المباشرة بين تركيا وإسرائيل في جنوب سوريا تظل غير مرجحة على المدى القصير، إلا أن هذا التنافس الكامن يضيف بُعدًا إضافيًا من عدم الاستقرار إلى الديناميكيات المعقدة التي تشهدها المنطقة بالفعل. وهذا من شأنه أن يزيد من تفتيت مشهد السيطرة، ويعقد الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار، ويُفسِح المجال أمام الفرص المحتملة للخطأ والتصعيد غير المقصود، ما قد يُفاقم حالة عدم الاستقرار القائمة ويُعيق أي آفاق لبناء دولة سورية موحدة ومستقرة.

شبح التقسيم

يُشكّل سيناريو التقسيم أحد أكثر المآلات خطورة ليس فقط على جنوب سوريا، بل على الدولة السورية بأسرها. ورغم أنه قد لا يكون هدفًا مُعلنًا لأي طرف، إلا أن مسار الأحداث المتسارع، الذي تغذّيه ديناميكيات التوسع الإسرائيلي، والتحولات الديموغرافية، وتشرذم مراكز السيطرة، والتنافس الإقليمي، يجعل من هذا السيناريو احتمالًا متزايد الواقعية، حتى وإن لم يُترجم إلى تقسيم رسمي. ويأتي إضعاف الدولة السورية المركزية، إلى جانب بروز مراكز قوى محلية وترسيخ النفوذ الخارجي، ليهيئ الظروف المناسبة للتفتيت. ووسط هذا المشهد، قد يتحول جنوب سوريا، الذي يشهد بالفعل حكمًا شبه ذاتي في العديد من الجوانب، إلى كيانٍ منفصل بحكم الأمر الواقع، مُجزّأ وفقًا لخرائط النفوذ التي ترسمها إسرائيل والفصائل المحلية، وربما قوى إقليمية أخرى.

 

وقد يتجسد سيناريو التقسيم هذا بعدة أشكال تشمل ضم إسرائيل لمزيدٍ من الأراضي السورية رسميًا، بما يتجاوز هضبة الجولان، وبالتالي إرساء حدود جديدة واضحة المعالم، تسعى إسرائيل إلى فرضها كأمر واقع وكسب اعتراف دولي بها. ومن المرجح أن يتطور الأمر إلى تقسيم فعلي بحيث يخضع جنوب سوريا لنفوذ إسرائيل وسيطرتها، وبالتالي يصبح مفصولًا عن باقي سوريا، ولكن دون الإعلان رسميًا عن استقلاله أو ضمه. وبغض النظر عن كيف سيكون التقسيم، فإن عواقبه ستكون مدمرة لسلامة الأراضي السورية، ووحدتها الوطنية، واستقرارها المستقبلي، إذ سيسهم في ترسيخ تآكل السيادة السورية، ويزيد من تمكين الفاعلين غير الحكوميين، وقد يُشعل المزيد من الصراعات والنزوح، ليس فقط داخل جنوب سوريا، بل عبر المنطقة بأسرها. ورغم أن سيناريو التقسيم لا يزال احتمالًا مستقبليًا بعيدًا عن الواقع الراهن، فإنه بات يتخذ مسارًا متزايد الاحتمالية، يبعث على القلق العميق، نتيجةً لتقاطع العوامل التي تعيد تشكيل جنوب سوريا بشكلٍ مستمر.

عجز الردع

يشكّل “انعدام الردع والوحدة الوطنية” داخل سوريا نفسها الأساس الذي يرتكز عليه التوسع الإسرائيلي المُريح وتزايد مخاطر التشرذم. فعلى الرغم من سيطرة دمشق شكليًا على الدولة السورية، إلا أنها تبدو عاجزة بشكلٍ واضح عن ردع التحركات الإسرائيلية في الجنوب أو بسط نفوذها فعليًا على المنطقة. ويعود هذا العجز في الردع إلى مزيجٍ من العوامل المتشابكة، حيث أدت سنوات الحرب الأهلية إلى إضعاف الجيش السوري بشكلٍ كبير، سواء على صعيد قدراته العسكرية التقليدية أو على مستوى معنوياته وتماسكه بشكلٍ عام. ورغم أن الفصائل المسلحة استطاعت البقاء خلال الصراع، إلا أنها لا تزال مفتقرة إلى الشرعية الشاملة، وتعاني من صعوبةٍ في ترسيخ سيطرته حتى في المناطق الخاضعة لسيطرته اسميًا. ومن ناحيةٍ أخرى، أدت العزلة الدولية والعقوبات المفروضة إلى إعاقة قدرة الدولة على إعادة بناء جيشها وفرض قوتها، ما جعلها عرضة للضغوط والتدخلات الخارجية.

 

ويرتبط عجز الردع ارتباطًا وثيقًا بالقضية الأوسع المتعلقة بالوحدة الوطنية. فالدولة السورية تعاني من انقساماتٍ عميقة على أسسٍ طائفية وعرقية وسياسية، وقد أدت سنوات الصراع إلى تعميق هذه الانقسامات، ما أدى إلى تآكل أي شعور بالهوية الوطنية المشتركة أو الهدف الموحد. كما أن اعتماد نظام الأسد على الميليشيات الطائفية والموالية ساهم في تفتيت الوحدة الوطنية، وخلق هياكل قوى موازية، ما كرّس دوامات العنف والتشرذم. فبدون دولة سورية متماسكة وموحدة، قادرة على فرض سلطتها وكسب ولاء سكانها المتنوعين، تظل آفاق ردع العدوان الخارجي بفعالية أو منع المزيد من التفكك الإقليمي محاطة باليأس. وفي هذا السياق، يخلق التدهور الداخلي للوحدة الوطنية وغياب الردع المقابل فراغًا تستغله القوى الخارجية، مثل إسرائيل، بسهولة، ما يزيد من تعميق الثغرات الحالية ويدفع بجنوب سوريا إلى مستقبل مظلم يتسم بعدم الاستقرار، والتفكك، وتآكل السيادة السورية.

 

ختامًا، يقف جنوب سوريا على شفا هاوية، مهددًا بمستقبل يكتنفه الغموض ومخاطر التشرذم. فالتوسع الإسرائيلي، الذي يمضي براحةٍ مدروسة، ليس مجرد قضية إقليمية؛ بل هو قوة مُزعزعة للاستقرار تُعيد تشكيل المشهد الاجتماعي والديموغرافي والسياسي في المنطقة. وحينما تقترن هذه العوامل بضعف الدولة السورية، وتفكك الوحدة الوطنية، وغياب ردع فعّال، إلى جانب التداخل المعقّد بين التنافسات الإقليمية، وعلى رأسها الصراع الناشئ بين تركيا وإسرائيل، فإن المسار الذي يسلكه جنوب سوريا لا يشير إلا إلى مزيد من الاضطراب، وربما تفتتٍ لا رجعة فيه. ولم يعد “سيناريو التقسيم” مجرد احتمال بعيد أو فرضية نظرية، بل بات مآلًا قاتمًا محتملًا يعكس الأثر التراكمي لهذه العوامل المتشابكة. وما يزيد من تعقيد هذه التحديات الأمنية والسياسية هو الوضع الاقتصادي المتردي الذي يُحكِم قبضته على سوريا. ففي ظل استمرار العقوبات وغياب أي بوادر لتخفيفها، تزداد ضبابية آفاق انتقال سياسي مستدام وشرعي، وهو أمر جوهري لتحقيق الاستقرار طويل الأمد، ليس في جنوب سوريا فحسب، بل في البلاد بأسرها.

 

وفي ظل وجود معرقلين داخليين وخارجيين يتربصون بكل فرصةٍ لإفشال الانتقال الهش في سوريا، فإن تأجيل أي انتعاش اقتصادي حقيقي لا يعدو كونه وصفة لفوضى عارمة وانقسامات أعمق، ما يضعف آفاق الوحدة الوطنية أكثر فأكثر، ويجعل مناطق مثل جنوب سوريا أكثر عرضة للتفكك والانهيار. وبينما تُحجم الحكومات الغربية، بحذرٍ مفهوم، عن تخفيف العقوبات على نطاق واسع، مترويةً في تقييم مدى استجابة النظام والتزامه بإحداث تغيير حقيقي، فإن إدارة دمشق، بلا شك، تعكس هذا التوجس بدورها، متوخية الحذر في حساباتها، ورصد كيفية تلقّي دعواتها لتخفيف العقوبات في العواصم الغربية، واضعةً ذلك في صلب استراتيجياتها المستقبلية.

 

لذا، فإن تفادي أسوأ السيناريوهات في جنوب سوريا، بل وفي سوريا بأسرها، يتطلب جهدًا متكاملًا ومتعدد الأبعاد، يكون التصدي للأزمة الاقتصادية جزءًا جوهريًا منه. فتعزيز الوحدة الوطنية السورية، وترسيخ حوكمة شاملة، وإحياء الشعور بالهوية الوطنية المشتركة تظل أولويات لا غنى عنها، وإن كانت تشكل تحديًا هائلًا في السياق الحالي، وتزداد صعوبة في ظل الانهيار الاقتصادي. وينبغي للفاعلين الإقليميين والدوليين تجاوز حساباتهم الضيقة والانخراط في جهدٍ حقيقي ومنسقٍ لخفض التوترات، ودعم تسوية سياسية تفاوضية شاملة للأزمة السورية، تتضمن مسارًا للتعافي الاقتصادي، وتضمن صون السيادة السورية وسلامة أراضيها. أما الإخفاق في التصدي لهذه التحديات المتشابكة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، فسيجعل جنوب سوريا عرضةً للغرق في دوامةٍ من عدم الاستقرار المزمن والتشرذم المتفاقم، ما يضاعف معاناة سكانه ويفتح الباب أمام تداعيات إقليمية أوسع. لذا، فإن التحولات المتسارعة في هذه المنطقة تستوجب اهتمامًا عاجلًا وإعادة نظر جذرية في النهج المُتبع، قبل أن يُفرض عليها مصيرٌ لا رجعة فيه، تصوغه قوى التفكك والهيمنة الخارجية، وتُرسّخه أزمة اقتصادية خانقة تُضيف بُعدًا أشد تعقيدًا إلى معادلة الانهيار.

المراجع

“In Israeli-occupied South Syria, Villagers Feel Abandoned,” FRANCE 24, December 21, 2024, https://www.france24.com/en/live-news/20241221-in-israeli-occupied-south-syria-villagers-feel-abandoned

 

Aslı Aydıntaşbaş, “Topple, Tame, Trade: How Turkey Is Rewriting Syria’s Future,” ECFR, February 6, 2025, accessed March 12, 2025, https://ecfr.eu/article/topple-tame-trade-how-turkey-is-rewriting-syrias-future/

 

Cathrin Schaer, “What Is Israel Doing in Syria, and Why?,” Dw.Com, March 4, 2025, https://www.dw.com/en/what-is-israel-doing-in-syria-and-why/a-71824463

 

Emanuel Fabian, “Katz says Israel will soon allow Syrian Druze to work in the Golan Heights,” The Times of Israel, March 9, 2025, https://www.timesofisrael.com/katz-says-israel-will-soon-allow-syrian-druze-to-work-in-the-golan-heights/

 

Fabrice Balanche, “Sectarianism in Syria’s Civil War a Geopolitical Study,” The Washington Institute, February 5, 2018, accessed March 12, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/sectarianism-syrias-civil-war-geopolitical-study

 

Murat Guneylioglu, “Reconsidering Turkey’s Influence on the Syrian Conflict,” Royal United Services Institute, January 31, 2025, accessed March 12, 2025, https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/reconsidering-turkeys-influence-syrian-conflict

 

Nour Samaha, “ISRAEL’S ‘SAFE ZONE’ IS CREEPING FARTHER INTO SYRIA,” The Intercept, July 23, 2018, https://theintercept.com/2018/01/23/israel-syria-safe-buffer-zone-golan-heights/

 

Sebastian Usher, “Israel Demands Complete Demilitarisation of Southern Syria,” BBC News, February 24, 2025, accessed March 12, 2025, https://www.bbc.com/news/articles/cvgenz02lp8o

 

Steven Heydemann, “Syria Needs Sanctions Relief Now,” Brookings, January 15, 2025, accessed March 12, 2025, https://www.brookings.edu/articles/syria-needs-sanctions-relief-now/

 

Ward, Euan. “Israel Strikes Syria Again as Tensions Rise.” The New York Times, March 4, 2025. https://www.nytimes.com/2025/03/04/world/middleeast/israel-syria-strikes.html.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *