لم تقتصر تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس على حدود غزة أو الشرق الأوسط فحسب، بل أخذ الاستقطاب والانقسام حول القضية الفلسطينية طابعًا جديدًا، ولا سيما في العالم الغربي، حيث نادراً ما كانت تبدو مثل هذه الانقسامات عميقة إلى هذا الحد. ويمكن أن تعزى التصدعات داخل الحكومات والمجتمعات إلى التغيرات التى تحدث فى المنظومة القيمية، والتعرض المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل التغييرات الديموغرافية. وفي ظل وجود مثل هذا الانقسام غير المسبوق حول تعاطى الحكومات الغربية مع الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، يواجه الغرب مأزقًا أخلاقيًا يضعه فى حالة انكشاف تدحض جميع دعاوى تفوقه الاخلاقى المزعوم.
تزايد الاستقطاب بين الساسة الغربيين بشأن الأزمة في غزة نتيجة للعمليات العسكرية الانتقامية من جانب إسرائيل التي استهدفت المدنيين منذ يوم السابع من أكتوبر، ويبدو هذا الانقسام أكثر وضوحاً بين الساسة اليساريين مقارنة بنظرائهم اليمينيين. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، أبدى أعضاء حزب العمال انقساماً حول الدعوة إلى وقف إطلاق النار، فيما أعرب البعض عن مخاوفهم بشأن التداعيات الانتخابية لسياسات كير ستارمر الحالية والتي ينظر إليها البعض على أنها قد تثير ردود فعل عكسية بين الناخبين المسلمين.
كما واجه رئيس الوزراء الإسباني سانشيز تحديات أيضًا؛ حينما وصف أحداث 7 أكتوبر بأنها “هجوم إرهابي”. وقال حزب سومار، الذي يشكل الحكومة إلى جانب الحزب الاشتراكي العمالي الذي يتزعمه سانشيز، إن إسرائيل مسؤولة عن أي أعمال عنف نظرا لاحتلالها غير الشرعي لفلسطين، وأراد أعضاء حزب سومر إدراج الاعتراف بفلسطين في الاتفاقية الحاكمة، وهو اقتراح رفضه حزب العمال الاشتراكي الذي يتزعمه رئيس الوزراء. بالإضافة إلى ذلك، أقال سانشيز وزيرة الحقوق الاجتماعية بعد أن انتقدت “الصمت المطبق” للغرب بشأن تصرفات إسرائيل في غزة. وكان لإيطاليا نصيبها العادل من الانقسام حول هذه القضية، حيث يدعم اليسار دائمًا القضية الفلسطينية بينما يقف اليمين على الجانب الآخر داعمًا إسرائيل.
وخارج أوروبا، شهدت كندا والولايات المتحدة انقسامًا مماثلاً؛ وعلى الرغم من إظهار رئيس الوزراء الكندي دعمًا مستمرًا لإسرائيل، وقع أكثر من 20 نائبًا ليبراليًا من اليسار على رسالة تدعو إلى وقف إطلاق النار، وهو الموقف الذي رفضه ترودو الذي صرح بدلاً من ذلك بالدعوة إلى “هدنة إنسانية”. وحتى على الجانب الأمريكي، هناك فصيل نشط داخل الحزب الديمقراطي ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها امتدادًا لحركات العدالة العرقية.
ولم يقتصر الاستقطاب على الحكومات من الداخل فحسب، بل امتد حتى إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبح الخلاف بين الدول الأعضاء فيه واضحا؛ وهي ظاهرة يمكن اكتشافها بسهولة عند ملاحظة الاختلاف بين دعم ألمانيا المتكرر غير المشروط لإسرائيل، وبين أسبانيا وبلجيكا التي تم استدعاء سفرائها في إسرائيل بعد انتقادهما قصف غزة من قبل الأخيرة. كما ترددت أصداء الانقسامات داخل مفوضية الاتحاد الأوروبي، وخاصة بين الرئيسة والأعضاء حيث أطلق دبلوماسيو الاتحاد الأوروبي على فون دير لاين لقب “الملكة”، ولكن ليس بالمعنى الجيد، بل لأنها اتخذت قرارات كما لو كانت تحكم بموجب مرسوم. وانتقدها كبار دبلوماسي الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك جوزيب بوريل، بعد قيامها بزيارة غير مقررة لإسرائيل عقب هجمات السابع من أكتوبر. حتى أن بوريل و انتقد تصرفات فون دير لاين بشكل علني قائلًا إنها لا يحق لها تمثيل آراء الاتحاد الأوروبي دون التنسيق بين الدول الأعضاء.
عندما يتعلق الأمر بالانقسامات في الشارع، يرى البعض أن الهجوم الإسرائيلي على غزة غير مبرر ويرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وليس الحرب، بينما يرى آخرون أنه رد انتقامي ضروري على هجمات 7 أكتوبر وأن الدولة المنبوذة في الشرق الأوسط لديها “الحق في الدفاع عن نفسها”. ورغم أن هذا الانقسام كان موجودًا دائمًا، إلا أنه اتخذ هذه المرة طابعًا جديدًا سواء على الشاشات أو في الشوارع في جميع أنحاء العالم. لقد أثارت الأزمة في غزة استجابة في المدن الغربية كما لم يحدث من قبل، ونددت المسيرات بالهجوم الإسرائيلي واتهمت حكوماتها بالتواطؤ. وحتى هوليوود أصبحت منقسمة، وهو أمر نادر ما يحدث في صناعة لطالما أظهرت الوحدة في القضايا السياسية، بدءًا من المعارضة ضد ترامب إلى دعم حقوق الإنجاب. لكن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي أحدثت تصدعات نادرة. و يجسد طرد الممثلة المكسيكية “ميليسا باريرا” من دورها كنجمة فيلم “الصرخة” القادم وانسحاب زميلتها جينا أورتيجا تضامنًا معها يجسد الانقسامات التى حددثت داخل هوليوود بشأن هذه القضية.
يمكن أن يُعزى الاستقطاب العام، جزئيًا، إلى غرف الصدى لوسائل التواصل الاجتماعي حيث شاهد الكثير من الناس لقطات لهجمات 7 أكتوبر والدمار الذي خلفته، مما شكل وجهات نظرهم، بينما ركز آخرون على الفظائع في غزة. ويظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة بين الأجيال الشابة، واضحًا، مؤكداً على قوة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي طوال الحرب بين إسرائيل وحماس. وكان الانتشار واسع النطاق “لرسالة أسامة بن لادن إلى أمريكا” مؤخرًا بين المراهقين دليلاً على ذلك.
و مع ذلك علينا القول بانه من المبالغة ارجاء التأثير باكمله لوسائل التواصل الاجتماعى و التعامل مع هذا التاثير بوصفه علامة سببية، لأن الخوارزميات تُظهر للأشخاص ما تم اختياره مسبقًا للتعرض له في المقام الأول. ومع ذلك، لا يمكن إهمالها بالكامل بالنظر إلى أهميتها في تغذية أفكار معينة لدى الشباب. وبناءً على ذلك، فإن تفسيرات التعاطف المتزايد مع الفلسطينيين بين الأجيال الأمريكية الشابة تشمل نظريات مثل تأثير حركات “حياة السود مهمة” والمقارنة بين معاملة الأشخاص غير البيض في الولايات المتحدة وخارجها، أي الفلسطينيين في هذه الحالة، وتلاشي ذكرى هجمات 11 سبتمبر، كل ذلك يتداخل مع مقاطع الفيديو والصور التي تبرز معاناة وألم الفلسطينيين في غزة.
ويمكن إرجاع ذلك أيضًا إلى الديموغرافيا وأصول القوى المتنافسة في ظل تزايد عدد السكان المسلمين في معظم دول أوروبا الغربية. ففي ألمانيا، تعود جذور جزء كبير من السكان إلى سوريا ودول أخرى معادية لإسرائيل. ومع ذلك، هناك اتجاه معاكس ينبع من الذنب الجماعي الألماني المنسوب إلى المحرقة والفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية. ناهيك عن تعرض فرنسا، التي تستضيف أكبر عدد من السكان المسلمين واليهود في أوروبا الغربية، لهجمات إرهابية قادها إسلاميون متطرفون، فضلاً عن تصاعد العداء لأمريكا والشعور بالذنب الجماعي من استعمارها للعالم العربي.
ولهذا السبب يمكن فهم الدوافع وراء عدم ظهور نفس النوع من الاستقطاب عندما هاجمت روسيا أوكرانيا، في حين تعمل الحرب في غزة على تقسيم الغرب تقريبًا. وفي الوقت نفسه، هناك أيضًا تغير ديموغرافي في الولايات المتحدة، حيث بات الشباب الأمريكيون أقل ميلاً إلى دعم إسرائيل من الأجيال الأكبر سنًا، ما يظهر تعاطفًا أكبر تجاه الفلسطينيين.
وفي النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بانقسام الغرب بسبب الحرب، بل يتعلق أيضًا بتآكل مبدأ “التفوق الأخلاقي” الغربي. فعلى مدى عقود من الزمن، أثبتت القيم الغربية أنها مركز كل القيم، وقد روج لها الساسة الغربيون باعتبارها فضائل مطلقة. إلا أن هذه الحرب أثبتت العكس. ونظرًا للعدد الهائل من القتلى المدنيين، يعاني الغرب من الضرر الذي لحق بسمعته. ويواجه الحلفاء الغربيون اتهامات بازدواجية المعايير والنفاق لوقوفهم إلى جانب إسرائيل، خاصة بالمقارنة مع موقفهم الثابت تجاه روسيا بعد هجومها على أوكرانيا.
وربما بدأ بعض الساسة الغربيين في الاعتراف بذلك، وهو ما قد يفسر التحولات في الخطاب واللغة. ومع ذلك، من الضروري توضيح أن التعبير عن التعاطف مع فلسطين ليس بالضرورة محاولة لإنقاذ السمعة الت اصبحت على المحك الان. و انما من المرجح أن يعكس فهما دقيقا بأن القيم الغربية لا يتم تفسيرها عالميا بنفس الطريقة من قبل جميع السكان. ويؤمن البعض أن الدفاع عن القيم الغربية يعني الدفاع عن حلفاء الغرب بينما يؤمن البعض الآخر بنهج أكثر شمولية يجب فيه معاملة الأشخاص مهما بلغت درجة اختلافاتهم على قدم المساواة دون ازدواجية تظهر تحيز المنظومة القيمية الغربية.
Economist, The. “The Culture War over the Gaza War.” The Economist, 2023. https://www.economist.com/international/2023/10/28/the-culture-war-over-the-gaza-war
Epstein, Reid J., and Anjali Huynh. “Democrats Splinter over Israel as the Young, Diverse Left Rages at Biden.” The New York Times, October 27, 2023.https://www.nytimes.com/2023/10/27/us/politics/biden-democrats-israel-2024.html
Ingram, David. “Is It Tiktok? Here’s Why Some Young Americans Sympathize with Palestinians.” NBCNews.com, 2023. https://www.nbcnews.com/tech/internet/tiktok-s-young-americans-sympathize-palestinians-rcna124476
تعليقات