كتب بواسطة

شهد القرن الحادي والعشرون عودة الوساطة كأداة محورية لحل النزاعات الدولية، ويرجع هذا الظهور إلى التعقيدات التي فرضتها الصراعات المعاصرة، و توسع نطاق التهديدات لتتخطي الشكل التقليدي للنزاعات الإقليمية، والحروب الأهلية، والأزمات السياسية، فقد شهد العالم تزايد التهديدات الأمنية غير التقليدية لتشمل قضايا جديدة على رأسها تغير المناخ، والأمن السيبراني، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية.

 

وسبق أن تقدمت دول مختلفة للعب أدوار مهمة في هذا المجال، مستفيدة من فطنتها الدبلوماسية ونفوذها السياسي ومواردها الاقتصادية لتسهيل الحوار ووقف التصعيد، ومن بين أبرز الوسطاء، النرويج التي أثبتت باستمرار التزامها تجاه قضايا بناء السلام من خلال مشاركتها الفعالة في حلحلة العديد من الصراعات، من سريلانكا إلى كولومبيا إلى تسهيلها لاتفاقيات أوسلو ليجسد قدرتها على تعزيز الحوار بين خصوم يبدو أنه لا يمكن التوفيق بينهم.

 

كما قدمت فنلندا، المشهورة بنهجها المتعدد الأطراف، وتأكيدها على بناء الإجماع عدة مبادرات أبرزها مجموعة أصدقاء الوساطة في سبتمبر 2010، والتي لعبت دورًا رئيسيًا في عمليات بناء السلام في القرن الأفريقي، كما وفرت سويسرا، مستفيدة من تقاليدها الطويلة الأمد المتمثلة في الحياد، مكانًا آمنًا ومحايدًا لعدد لا يحصى من محادثات السلام والمفاوضات، مما عزز بيئة مواتية للتسوية والحل.

 

ووسط كل هذا الزخم شهدت العشرية الأخيرة ظهور جهات فاعلة غير غربية في مجال الوساطة. وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة كلاعب مهم في الشرق الأوسط وخارجه. فمنذ تأسيسها، التزمت دولة الإمارات بنهج يجمع بين القيم العربية التقليدية والممارسات الدبلوماسية الحديثة للتعامل مع التعقيدات الثقافية للصراعات الإقليمية، كما تبنت سياسة تعزيز السلام والأمن والاستقرار في منطقتها والعالم، وتجلى هذا الالتزام في مبادراتها العديدة التي ساهمت في تهدئة الصراعات والأزمات، وأبرزها التوسط في الصراع الدائر في اليمن، والتوفيق بين الهند وباكستان، دورها المحوري في اتفاق السلام التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018، وتسهيلها لعمليات تبادل أسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والوساطة بين روسيا والولايات المتحدة، كما نشطت في الساحة متعددة الأطراف من خلال استضافتها لمؤتمر المناخ "كوب 28" في دبي.

 

ومع الرغم من ذلك، فإن طريق الوساطة لا يخلو من التحديدات. فالتعقيدات المتأصلة في العديد من الصراعات الإقليمية، والمصالح المتضاربة للأطراف المعنية، والحاجة إلى تحقيق التوازن بين جهود الوساطة والمصالح الوطنية، كلها عوامل يمكن أن تعيق تحقيق حلول مستدامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحفاظ على الحياد في المواقف المستقطبة، ومحدودية النفوذ على الجهات الفاعلة من غير الدول، والقيود المحتملة على القدرات، كلها تحديات يجب على دولة الإمارات التغلب عليها لضمان استمرار نجاح جهودها في الوساطة. لذا يسعي هذا التحليل إلى استعراض دور دولة الإمارات كوسيط دولي صاعد، مع التركيز على العوامل التي مكنتها من الصعود، والاستراتيجيات التي تستخدمها، وتأثيراتها على الصراعات الإقليمية والدولية.

الوساطة الإماراتية: مسيرة من التراث إلى الريادة العالمية في حل النزاعات الدولية

لم تكن الوساطة في دولة الإمارات مجرد أداة دبلوماسية حديثة، بل هي ممارسة متجذرة في عمق التراث الثقافي والاجتماعي للدولة. ففي بداياتها، اعتمدت دولة الإمارات على الوساطة كأداة لحل النزاعات القبلية والمحلية، مستفيدة من حكمة شيوخ القبائل وقيم التسامح والتراضي التي تسود المجتمع الإماراتي. ومع تزايد نفوذها الإقليمي، بدأت الإمارات في لعب دور الوسيط في بعض النزاعات الإقليمية المحدودة، مستفيدة من علاقاتها الجيدة مع دول الجوار وقدرتها على بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة. عبر عدة عوامل بدءاً من دور المجلس ومفهوم الصلح إلى عوامل أكثر حداثة عبر صياغة سياسة خارجية قائمة على التحالفات المتداخلة والمتعددة، بالإضافة إلى بناء روابط قوية مع الشمال العالمي والجنوب العالمي، التي حددت من خلالها الخطوط العريضة للأسلوب الناشئ للوساطة الخليجية وحل النزاعات. وأخذت هذه المراحل في التطور لتشمل ما يلي:

 

المرحلة الأولى: من التقاليد المحلية إلى الدبلوماسية الإقليمية

 

أتخذ أسلوب الوساطة الإماراتي نهجًا قائمًا على مفهومين رئيسيين مرتبطان بتقاليد عربية وإسلامية عريقة، حيث كانا يشكلان آليات أساسية لحل النزاعات وتعزيز التسامح والتوافق المجتمعي، المفهوم الأول “الصلح”، وهو أسلوب عربي تقليدي لحل النزاعات يركز على المصالحة واستعادة العلاقات، ويلعب هذا المفهوم المتجذر بعمق في الثقافة العربية، دورًا مهمًا في تشكيل أسلوب الوساطة الخليجية بشكل عام والإماراتية بشكل خاص. المفهوم الثاني وهو مفهوم “المجلس” وهو مكان مخصص للتفاعل الاجتماعي المريح بين العرب لتبادل الآراء والمناقشة المتعمقة. إلا أن مفهوم المجلس لدي العرب يتخطى حاجز المكان، فهو حدث ومناسبة تجمع القبائل والعشائر معًا، والدليل على ذلك اعتراف اليونسكو بالأهمية الثقافية للمجلس في تعزيز “الحوار المجتمعي وحل النزاعات وتعزيز الروابط الاجتماعية”.

 

وكانت فكرة المجلس أحد أهم الأدوات الحاسمة في تعزيز الإجماع الإماراتي الرائد في مفاوضات مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (-COP28كوب 28)، وهو ما أشار إليه سلطان الجابر، رئيس كوب 28، في كلمته الختامية عن اعتقاده بأن مجلس صناع التغيير الذي استضافه مؤتمر الأطراف سمح للمندوبين “بإعادة التواصل” و”البدء في التحدث مع بعضهم البعض”.

 

كما طوّرت دولة الإمارات أساليب مميزة للوساطة تتسم بالتكتم والتركيز على تكوين علاقات دائمة. وهذه الأساليب متجذرة في النسيج الاجتماعي الثقافي فيها، حيث تمارَس الدبلوماسية في الكثير من الأحيان بعيداً عن الأضواء وتفضَل التفاصيل الدقيقة للمفاوضات على مظاهر الخلافات العلنية، وهو نهج مترسخ في التقاليد العربية. فأصبحت دولة الإمارات بارعة في توفير بيئة آمنة وجديرة بالثقة للأطراف المتنازعة التي قد تكون حذرة من التداعيات المحتملة للدبلوماسية العلنية رفيعة المستوى.

 

المرحلة الثانية: التحول نحو الريادة الدولية

 

شهدت دولة الإمارات تحولًا ملحوظًا في دورها على الساحة الدولية، حيث انتقلت من كونها مركزًا اقتصاديًا إقليميًا إلى لاعب دبلوماسي مؤثر، يتبوأ مكانة مرموقة كوسيط دولي فاعل، و يعود هذا الصعود الملحوظ إلى تضافر عدة عوامل أساسية، على رأسها الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين قارات العالم، مما يجعلها ملتقى للثقافات والحضارات ومحطة توقف حيوية للتجارة العالمية، فضلاً عن كونها بوابة للتواصل بين الشرق والغرب، وقد أسهم في هذا التحول عدة عوامل رئيسية أبرزها:

 

  • الاستقرار السياسي والاقتصادي: الذي تتمتع به دولة الإمارات في منطقة مضطربة قد عزز من مكانتها كوسيط دولي موثوق به. فقد نجحت دولة الإمارات في بناء اقتصاد قوي ومتنوع، يوفر لها الموارد اللازمة لدعم جهود الوساطة وتقديم المساعدات الإنسانية، ويوفر بيئة مستقرة وموثوقة لاستضافة المفاوضات وحل النزاعات.

 

  • القوة الناعمة: ما يميز الدبلوماسية الإماراتية هو نهجها الفريد الذي يجمع بين القوة الناعمة والبراغماتية. فمن خلال الدبلوماسية الثقافية، والمساعدات الإنسانية، والاستثمار في التعليم والصحة في الدول النامية، استطاعت دولة الإمارات بناء صورة إيجابية لها كدولة مسؤولة تسعى إلى تحقيق الخير للبشرية. وقد عزز هذا النهج من مكانتها الأخلاقية وزاد من قبولها كوسيط نزيه وموثوق به، و عزز صورتها كدولة مسؤولة وبناءة تسعى لتحقيق السلام والتنمية المستدامة، والدليل على ذلك تدشين العديد من المبادرات التي تعمل على بناء قدرات النساء من آسيا وأفريقيا في المجالات العسكرية وحفظ السلام كمبادرة الشيخة فاطمة بنت مبارك للمرأة للسلام والأمن الإماراتية بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

 

  • الشبكات الدبلوماسية الواسعة: وسعت دولة الإمارات شبكاتها الدبلوماسية لتشمل مختلف دول العالم، مما أتاح لها الوصول إلى صانعي القرار والتأثير في الأحداث الدولية.

 

  • القيادة الرشيدة والرؤية الاستراتيجية: أدركت القيادة الإماراتية القيود التي تفرضها الحلول العسكرية واستخدام القوة في حل النزاعات، حيث رسمت القيادة الإماراتية الحالية سياستها الخارجية قائمة على الحلول السلمية للصراعات القائمة على الحوار وفقاً لرؤية الآباء المؤسسين.

 

” لا يُمكنِ لأيّ دولةٍ أنْ تعيشَ مُنعَزِلةً عنِ الآخرينَ، وأنَّ أكبرَ دولةٍ على وجهِ الأرضِ تحتاجُ إلى أصغرِ دولةٍ”

من الأقوال المأثورة لسمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيّب الله ثراه

 

وتتجلى براعة دولة الإمارات في تبني نهج متوازن يعكس حكمة قيادتها ورؤيتها الاستراتيجية، ويؤكد على أهمية القوة الناعمة في عالم متعدد الأقطاب. فمن خلال سياستها الخارجية البناءة وجهودها في الوساطة، وتقدم دولة الإمارات نموذجًا يحتذى به في بناء جسور التواصل والتفاهم بين مختلف الثقافات والحضارات و إعطاء الأولوية للدبلوماسية وخفض التصعيد.

تأثير الوساطة الإماراتية: بصمة واضحة في عالم متغير

تمتد استراتيجيات الوساطة الإماراتية لتشمل مجموعة متنوعة من الأدوات والآليات، بدءًا من الدبلوماسية المكوكية، التي يقوم بها الدبلوماسيون الإماراتيون بنشاط لنقل الرسائل وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، وصولًا إلى استضافة محادثات السلام وتوفير منصات محايدة وآمنة للحوار البناء. كما تقدم الإمارات مساعدات إنسانية للمتضررين من النزاعات، وتستثمر في مشاريع التنمية الاقتصادية في المناطق المتضررة، مما يساعد في تخفيف المعاناة وبناء الثقة وتعزيز الاستقرار.

 

على الصعيد الإقليمي

ساهمت جهود الوساطة الإماراتية في تهدئة العديد من الصراعات الإقليمية، وحققت نجاحات ملموسة في مناطق متعددة. ففي اليمن، ساهمت دولة الإمارات في تحقيق تقدم ملموس نحو خارطة السلام، من خلال تسهيل الحوار بين الأطراف المتحاربة، ودعم تنفيذ اتفاق الرياض، وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين. كما ساهمت في تسهيل الحوار بين الهند وباكستان، بهدف تخفيف التوترات وتعزيز التعاون بين البلدين.

 

ولم تقتصر جهود الإمارات على الوساطة السياسية فحسب، بل امتدت لتشمل تقديم المساعدات الإنسانية والاستثمار في مشاريع التنمية الاقتصادية في المناطق المتضررة من النزاعات، بهدف تخفيف المعاناة وبناء الثقة وتعزيز الاستقرار، مما يسهم في تهيئة بيئة مواتية للتوصل إلى حلول سلمية ودائمة.

 

على الصعيد الدولي

عززت جهود الوساطة الإماراتية مكانة الدولة كلاعب دولي مؤثر، ورسخت صورتها كدولة مسؤولة وبناءة تسعى إلى تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة والعالم. وقد أدى هذا الدور المتنامي إلى زيادة الاعتراف الدولي بالإمارات وتقدير جهودها، مما فتح لها أبوابًا جديدة للتعاون والشراكة مع مختلف القوى الدولية في معالجة التحديات العالمية المُلحة، مثل مكافحة الإرهاب والتطرف، وتعزيز التسامح والتعايش السلمي، ومواجهة التحديات البيئية عبر استضافتها لمؤتمر المناخ COP 28

وساطة الإمارات في الأزمات العالمية: قوة صاعدة من أجل السلام

أثبتت دولة الإمارات أن استخدام القوة الناعمة في حل النزاعات وتعزيز السلام، لا تقل أهمية عن القوة العسكرية والاقتصادية. فقد استخدمت الإمارات قوتها الناعمة، المتمثلة في الدبلوماسية الثقافية، والمساعدات الإنسانية، وبرامج التنمية، لبناء جسور الثقة والتفاهم بين الشعوب، وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي.

 

وأسفرت جهود الوساطة الإماراتية عن نتائج مهمة في مختلف الصراعات والنزاعات، بدءا من الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى النزاعات الدولية التي تشمل القوى الكبرى. ومن أبرز الأمثلة التي تسلط الضوء على تنامي دور دولة الإمارات والتزامها بالسلام ما يلي:

 

الوساطة في الصراع الروسي الأوكراني

 

أصبحت الإمارات مفاوضًا رئيسيًا في الصراع الروسي الأوكراني من خلال التوسط في عمليات تبادل أسرى وتشجيع المحادثات الدبلوماسية، ونفذت وزارة الخارجية الإماراتية حتى تاريخ التحليل خمس عمليات تبادل لما يزيد عن 530 أسير؛ مما يشير إلى المهارات الدبلوماسية التي تستخدمها دولة الإمارات لحل النزاعات، علاوة على علاقاتها الفريدة مع كلا الجانبين.

 

الوساطة بين الولايات المتحدة وروسيا

 

ومن الجدير بالذكر أن دولة الإمارات لم تعمل فقط كوسيط في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ولكنها لعبت أيضًا دورًا فعالً في المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا في ديسمبر 2022، فقد نجحت الوساطة التي قدتها دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية في الإفراج عن سجينين وتبادلهما بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية في أشاره تدل على قوة الدبلوماسية الإماراتية وقدرتها على لإتمام هذه الصفقة. كما العديد من الدلالات التي تدل على حياد دولة الإمارات وقدرتها على فتح تواصل مفتوح بين هذه القوي، بالإضافة إلى تعزيز النفوذ الدبلوماسي المتزايد لدولة الإمارات على الساحة الدولية عبر التزامها بتعزيز الأمن والاستقرار عبر القنوات الدبلوماسية.

 

الجهود الإنسانية في قطاع غزة

 

لعبت دولة الإمارات دورًا أساسيًا في ضمان التوافق بين “المفوضية الأوروبية” وقبرص والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشأن تفعيل الممر البحري لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. وركزت دولة الإمارات، خلال فترة ولايتها الناجحة التي استمرت عامين في مجلس الأمن الدولي (2022-2023)، على دورها في بناء الجسور بين دول الشمال العالمي والجنوب العالمي وتمثيل قضايا الشرق الأوسط، وإظهار بأنه من الممكن خدمة المصالح العربية بجدارة. وقد نجح هذا النهج في كسب الدعم لمبادراتها من خلال اعتماد أسلوب وساطة “إيجابي” يركز على تحقيق أهداف واسعة النطاق بدلاً من التمسك بمواقف صلبة التي هي بمثابة خطوط حمراء.

 

ويشكل دعم دولة الإمارات للقضية الفلسطينية حجر الزاوية في سياستها الخارجية منذ تأسيسها. وفي أعقاب الحرب الأخيرة على غزة، كثفت دولة الإمارات جهودها على الصعيدين الدبلوماسي والإنساني، حيث لعبت دولة الإمارات دورًا فعالًا في الضغط من أجل وقف إطلاق النار وزيادة تدفق المساعدات إلى الفلسطينيين من خلال مجلس الأمن الدولي حيث قادت عملية استصدار القرار 2720، الذي يدعو إلى اتخاذ خطوات عاجلة لتوصيل المساعدات الإنسانية وتهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال العدائية. وعلى الصعيد الإنساني، كانت دولة الإمارات من المساهمين الرئيسيين في المساعدات لغزة، حيث قدمت الإمدادات الأساسية عبر عملية الفارس الشهم والرعاية الطبية للمتضررين من الحرب. ويشمل ذلك علاج الأطفال المصابين ومرضى السرطان في مستشفيات الإماراتية، فضلاً عن إنشاء مستشفى ميداني داخل غزة.

 

صراعات القرن الأفريقي

 

لعبت دولة الإمارات دورًا حاسمًا في التوسط في النزاعات في القرن الأفريقي، لا سيما النزاع الحدودي الطويل الأمد بين إثيوبيا وإريتريا الذي استمر قرابة العقدين من الزمن، حيث قدمت مساعيها الحميدة، واستضافت جولات عديدة من المحادثات، ساهمت في نهاية المطاف في اتفاق السلام التاريخي الموقع في عام 2018، والذي أنهى رسميًا حالة الحرب بين البلدين.

 

الصراع في اليمن

 

شاركت دولة الإمارات بنشاط في جهود الوساطة لحل الصراع المعقد والمستمر في اليمن، وسهلت دولة الإمارات المحادثات بين الحكومة اليمنية ومختلف الأطراف المشاركة في الصراع بهدف إيجاد حل سياسي للأزمة. وبينما لا يزال الوضع في اليمن صعباً، قدمت دولة الإمارات منذ عام 2015 مساعدات لليمن بقيمة تجاوزت 6 مليارات دولار، ركزت بشكل أساسي على دعم الوضع الإنساني، فضلاً عن تقديم المساعدات الإنسانية. الخدمات العامة لضمان استمرارية التعليم في المدارس والبرامج الطبية والخدمات الحيوية مثل الطاقة والنقل. كما كانت دولة الإمارات واحدة من أكبر المساهمين الدوليين في استجابة اليمن لفيروس كورونا، وتعزيزاً لالتزامها الطويل الأمد تجاه الشعب اليمني، تعهدت دولة الإمارات اليوم بتقديم 230 مليون دولار أمريكي، قبيل مؤتمر الأمم المتحدة للتعهدات الذي استضافته سويسرا ومملكة السويد في عام 2021.

 

الوساطة بين باكستان والهند

 

جعل موقع دولة الإمارات الفريد كحليف وثيق لكلا من الهند وباكستان، إلى جانب موقفها المحايد وعلاقاتها الدبلوماسية القوية، وسيطًا مثاليًا. وقد استخدمت دولة الإمارات نفوذها لتسهيل المحادثات عبر القنوات الخلفية، واستضافة اجتماعات سرية بين مسؤولي البلدين، وتشجيع الحوار على أعلى المستويات الحكومية. وفي عام 2021، لعبت الإمارات دورًا حاسمًا في التوسط في اتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان، بعد فترة من التوترات المتزايدة على طول خط السيطرة في كشمير، وقد نجح هذا الاتفاق إلى حد كبير في احتواء الصراع وخلق بيئة أكثر ملاءمة للحوار. كما قامت دولة الإمارات بتيسير دبلوماسية المسار الثاني، حيث جمعت بين الأطراف المؤثرين من كلا البلدين لإجراء مناقشات غير رسمية حول مجموعة من القضايا. وقد ساعدت هذه المناقشات على بناء الثقة والتفاهم، مما مهد الطريق لمزيد من المفاوضات الرسمية.

 

صانعة الإجماع

 

ميزت دولة الإمارات نفسها باعتبارها “صانعة الإجماع” خلال كوب 28 ديسمبر 2023، وهو دور محوري يُعزى إلى نهجها الاستراتيجي الذي يشمل الدبلوماسية والشمولية والتركيز العملي على التنفيذ، وقد استفادت دولة الإمارات من قنواتها الدبلوماسية الراسخة وخبراتها التفاوضية لتقريب وجهات النظر المختلفة بين الدول ذات المصالح والأولويات المتنوعة، وقد سهّل ذلك صياغة “إجماع الإمارات العربية المتحدة”، وهو اتفاق شامل يشمل مجالات العمل المناخي الحاسمة، والذي يتضمن التزامات بزيادة قدرة الطاقة المتجددة ثلاث مرات بحلول عام 2030 وإنهاء إزالة الغابات بحلول العام نفسه. بالإضافة إلى ذلك، تم إحراز تقدم كبير في إطار الهدف العالمي للتكيف (GGA)، المصمم لتعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ في البلدان النامية، ومثلت قيادة دولة الإمارات في تعبئة التمويل، وتعزيز الشمولية، وتأمين الاتفاقيات بشأن القضايا الحاسمة مثل الخسائر والأضرار تظهر التزامًا قويًا بالعمل والتعاون الدوليين في مجال المناخ.

 

وركزت دولة الإمارات على الاستراتيجيات القابلة للتنفيذ، إلى جانب الالتزامات المالية الكبيرة، يجسد تفانيها في ترجمة الأهداف الطموحة إلى نتائج ملموسة، ولاقى هذا النهج العملي صدى لدى المشاركين، وعزز الإجماع حول الحلول القابلة للتحقيق. علاوة على ذلك، كما دعت دولة الإمارات إلى التحول المتوازن في مجال الطاقة، مع الاعتراف بالأهمية المستمرة لمصادر الطاقة الحالية مع تعزيز التطوير المتسارع ونشر تقنيات الطاقة المتجددة.

 

وعززت الفطنة الدبلوماسية لدولة الإمارات، والنهج الشامل، والتركيز على التنفيذ، والمنظور المتوازن بشأن تحول الطاقة، مكانتها باعتبارها منشئًا محوريًا للتوافق في كوب 28. ويعد هذا النهج التعاوني أمرا بالغ الأهمية لمعالجة التحديات المتعددة الأوجه التي يفرضها تغير المناخ وضمان مستقبل مستدام للجميع.

التغلب على التحديات وتحقيق الإنجازات

على الرغم من نجاحاتها الملحوظة، يواجه الدور المتنامي لدولة الإمارات كوسيط العديد من التحديات المتأصلة، والتي غالبا ما تتسم بمظالم تاريخية عميقة الجذور ومشاركة جهات فاعلة متعددة لها مصالح متنافسة، و يمكن أن تعيق طريق الوصول إلى الحلول المستدامة. علاوة على ذلك، فإن الحفاظ على الحياد وسط حالات الاستقطاب يمكن أن يكون بمثابة عمل توازن دقيق، لا سيما عندما تحتفظ دولة الإمارات بعلاقات وثيقة مع جهات فاعلة محددة أو تتولى مواقف متميزة في السياسة الخارجية.

 

و على الرغم من قدرة دولة الإمارات على ممارسة نفوذ كبير على الجهات الحكومية من خلال القنوات الدبلوماسية والاقتصادية، فإن نفوذها على الجهات غير الحكومية، مثل الميليشيات والجماعات الإرهابية، لا يزال محدودًا. وهذا التفاوت يمكن أن يعيق الجهود الرامية إلى جمع جميع الأطراف المعنية على طاولة المفاوضات وضمان التنفيذ الفعال لاتفاقات السلام. علاوة على ذلك، فإن الطلب المتزايد على الوساطة الإماراتية قد يزيد من الضغط على قدرة السلك الدبلوماسي الإماراتي، مما قد يؤدي إلى قيود على الموارد ويؤثر على فعالية جهود الوساطة المتزامنة.

 

كما أن تصورات التحيز النابعة من التحالفات الإقليمية لدولة الإمارات ومواقفها السياسية، يمكن أن تقوض الثقة وتعيق قدرتها على العمل كوسيط محايد. مما يتطلب بناء الثقة والحفاظ عليها كطرف محايد إظهارًا ثابتًا للحياد والالتزام بمبادئ الوساطة الدولية، مثل السرية والشفافية والشمولية.

 

وعلى الرغم من هذه التحديات، أظهرت دولة الإمارات نهجاً استباقياً وقابلاً للتكيف في الوساطة، مستفيدة من نقاط قوتها الفريدة لتحقيق اختراقات كبيرة، و استثمارها في بناء بنية تحتية قوية للوساطة، بما في ذلك برامج التدريب المتخصصة للدبلوماسيين ومركز مخصص للوساطة، كما يظهر التزامها بتعزيز قدرتها على حل النزاعات بشكل فعال. علاوة على ذلك، فإن استعداد دولة الإمارات للاستثمار في التنمية الاقتصادية والمساعدات الإنسانية في المناطق المتضررة من الصراع يؤكد اعترافها بأن السلام المستدام يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للصراع، وليس فقط الأعراض.

 

وفي الختام، ورغم أن النموذج الإماراتي أثبت فعاليته في كثير من الحالات، إلا أنه لا يخلو من التحديات. نتيجة تعقيد بعض الصراعات، والمصالح المتنافسة للأطراف المعنية، والقيود المفروضة على القوة الناعمة في مواقف معينة، مما يمكن أن تشكل عقبات أمام نجاح الوساطة. ومع ذلك، فإن النهج الفريد الذي تتبعه دولة الإمارات في حل النزاعات، والذي يجمع بين القيم التقليدية والممارسات الدبلوماسية الحديثة، يقدم نموذجًا قيمًا للدول الأخرى والمنظمات الدولية التي تسعى إلى تعزيز السلام والاستقرار في عالم معقد ومترابط، كما إن البروز المتزايد لدولة الإمارات كوسيط هو شهادة على نهجها المبتكر لحل النزاعات. ومن خلال الاستفادة من نقاط قوتها الفريدة، بما في ذلك موقعها الاستراتيجي ومواردها الاقتصادية وشبكاتها الدبلوماسية وتراثها الثقافي رسخت دولة الإمارات نفسها كوسيط موثوق به وفعال في المجتمع الدولي. وبينما يواجه العالم تحديات جديدة ومتطورة، يقدم نموذج الوساطة الإماراتي طريقًا واعدًا نحو بناء مستقبل أكثر سلامًا وازدهارًا.

المراجع

“Group of Friends of Mediation |.” n.d. UN Peacemaker. Accessed July 7, 2024. https://peacemaker.un.org/friendsofmediation

 

Mladenov, Nickolay. 2024. “The Arab Approach to Mediation—Reshaping Diplomacy in a Multipolar World.” The Washington Institute. season-01 2024. Accessed July 1, 2024. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/arab-approach-mediation-reshaping-diplomacy-multipolar-world

 

“COP28 President Delivers Remarks at Closing Plenary.” 2023. COP28 UAE. December 13, 2023. Accessed July 7, 2024. https://www.cop28.com/en/news/2023/12/COP28-President-Delivers-Remarks-at-Closing-Plenary

 

AlHefeiti, Ameirah. 2023. “UAE Statement at the UN Security Council Meeting on UN Peacekeeping Operations – Permanent Mission of the United Arab Emirates to the United Nations.” Permanent Mission of the United Arab Emirates to the United Nations. New York, United States of America, September 7. https://uaeun.org/statement/uae-unsc-peacekeeping-7sep/

 

“UAE Mediation Efforts Succeed with Exchange of 180 Captives Between Russia and Ukraine.” 2024. UAE Ministry of Foreign Affairs. June 25, 2024. Accessed July 4, 2024. https://www.mofa.gov.ae/MediaHub/News/2024/6/25/25-6-2024-UAE-Russi

 

Mohamed, Hatem. 2024. “Success of New UAE Mediation to Exchange Captives Between Russia, Ukraine.” Emirates News Agency- WAM. January 31, 2024. https://wam.ae/en/article/b1fg79z-success-new-uae-mediation-exchange-captives

 

“Success of Joint Emirati-Saudi Mediation Regarding Release and Exchange of Prisoners Between United States and Russian Federation.” 2023. Press release. UAE Embassy in Washington, DC. December 8, 2023. Accessed July 1, 2024. https://www.uae-embassy.org/news/success-joint-emirati-saudi-mediation-regarding-release-and-exchange-prisoners-between-united

 

Abdullah Al Hadabi, Amal. 2024. “Emirati Diplomacy Driving Efforts to Ease Conflicts in Ukraine and Gaza.” Future for Advanced Research and Studies. January 26, 2024. Accessed July 2, 2024. https://futureuae.com/en-US/Mainpage/Item/8990/emirati-diplomacy-driving-efforts-to-eas-conflicts-in-ukrain-and-gaza

 

Fick, Maggie, and Alexander Cornwell. 2018. “In Peace Between Ethiopia and Eritrea, UAE Lends a Helping Hand.” Reuters, August 8, 2018. https://www.reuters.com/article/world/in-peace-between-ethiopia-and-eritrea-uae-lends-a-helping-hand-idUSKBN1KT1RS/

 

Ministry of Foreign Affairs UAE. “UAE Expands Yemen Aid, Commits US$230 Million in Additional Support for the Yemeni People,” February 25, 2021. Accessed July 18, 2024. https://www.mofa.gov.ae/en/mediahub/news/2021/2/26/26-02-2021-uae-yemen

 

Rej, Abhijnan. 2021. “UAE Brokered India-Pakistan Ceasefire: Report.” The Diplomat, March 22, 2021. Accessed July 6, 2024. https://thediplomat.com/2021/03/uae-brokered-india-pakistan-ceasefire-report/

 

“UAE Consensus.” n.d. COP28  UAE. Accessed July 6, 2024. https://www.cop28.com/en/

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *