كتب بواسطة

بدأ مُصطلح "وحدة الساحات" ينتشر لأول مرة في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي بعد معركة سيف القدس في عام ٢٠٢١، هي نهج عسكري وأيديولوجي يرتبط في المقام الأول بوكلاء إيران في المنطقة ضمن ما يُسمى "محور المقاومة"، الذي يضم جماعات مثل حزب الله، حماس، الحوثيين، وغيرها من الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق، بهدف تعزيز التنسيق العملياتي بين هذه الجماعات لمواجهة إسرائيل وتقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة، وفقًا لما تقتضيه المصالح الإيرانية، وذلك عن طريق اتخاذ إجراءات متزامنة عبر جبهات مختلفة، مثل لبنان وغزة واليمن، لخلق معركة واحدة مُتزامنة موحدة ضد الأعداء المشتركين، وخاصة إسرائيل والولايات المتحدة.

 

طُبقت هذه الاستراتيجية على نطاقات محدودة عدة مرات قبل عمليات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، لكنها وصلت إلى مراحل غير مسبوقة من التنسيق بعد هذه العمليات، لتبلغ حد تقسيم الأهداف داخل إسرائيل، ليقوم هؤلاء الوكلاء باستهداف المُنشآت الإسرائيلية من كُلًا من غزة، لبنان، العراق، سوريا، وصولًا لليمن، في تزامن وتتابع مُضني بالصواريخ والمُسيرات ضغط الدفاعات الجوية الإسرائيلية، حتى أن بعضها أطلق من اليمن ليُصيب أهدافًا في تل أبيب.

 

لم يكتفِ هؤلاء الوكلاء وخصوصًا الحوثيين بتهديد المُنشآت الإسرائيلية، بل تتابعت ضرباتهم لتُعيق الملاحة في مضيق باب المندب، قُبالة السواحل اليمينية، وذلك عبر عشرات الضربات لسُفن يدعي الحوثيين أن لها علاقات بإسرائيل بداية من ملكية للدولة أو لأشخاص ذوي جنسية إسرائيلية وصولًا إلى مرورها بالموانئ الإسرائيلية، مما يوسع دائرة الاستهداف، ويجعل معاييرها مطاطة تشمل نسبة كبيرة من حركة المرور في المضيق المحوري بالنسبة للتجارة العالمية، وخصوصًا الدول العربية المُصدرة للنفط، ومصر التي تعتمد على قناة السويس مقصد النسبة الأكبر من السُفن العابرة للمضيق، ما أسفر عن تحول مسار خطوط الشحن من قناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح، الأمر الذي ستكون له تحولات استراتيجية بعيدة المدى، بالإضافة إلى  تداعيات المدى القصير على اقتصادات الدول العربية من المجموعتين السابقتين، لذلك يهدف هذا التحليل إلى تحليل أهمية المضيق بالنسبة للدول العربية، وانعكاساته الاستراتيجية على اقتصاداتها.

تطورات استهداف الملاحة في المضيق

تدخل الحوثيين لأول مرة في الحرب بين إسرائيل وحماس تطبيقًا لاستراتيجية وحدة الساحات في ١٩ أكتوبر ٢٠٢٣، عندما أعلنت المُدمرة الأمريكية USS Carny قيامها بإسقاط ثلاث صواريخ كروز انطلقت من المناطق التي تُسيطر عليها الجماعة في اليمن في طريقها إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر ، تكررت الضربات الحوثية بذات النمط خلال أكتوبر وحتى مُنتصف نوفمبر عندما قامت مروحية تابعة للجماعة باختطاف السفينة جلاكسي ليدر لدى عبورها مضيق بابا المندب ، لتبدأ سلسلة طويلة مُستمرة من الهجمات على السُفن وفقًا لمعايير ثلاثة حددتها الجماعة وهي أولًا أن تكون مملوكة لإسرائيليين أو لدول غربية داعمة لإسرائيلي، ثم وسعت المعايير بأن أضافت السُفن المُتجهة إلى موانئ إسرائيلية، مما أدي لاستهدافات عشوائية، مُتعددة بلغت ٧٧ اعتداء حتى ٢٠ من يوليو ٢٠٢٤، تُحصيها الخريطة الحالية وفقًا لعلم السفينة:

 

 

لم تكون الهجمات عشوائية وغير ذات معايير فقط، بل إن مُعظمها جاء ناجحًا برغم وجود قوات عملية “حارس الازدهار” التي شُكلت خصيصًا لحماية الملاحة ضمن المضيق وتحييد التهديدات الحوثية، ورغم جهود هذه القوات وتصديها للعديد من الهجمات بمُختلف أنواعها إلا أنها لم تنجح في وقفها أو حماية الملاحة بشكل كامل، وبالتالي أصيبت السبع وسبعين سفينة -السابق الإشارة إليهم- من ضمن مئات السُفن التي عبرت المضيق ومازالت حتى الآن، لكن هذه الإصابات كانت كافية لإحداث التأثير الاقتصادي والنفسي لإعاقة الحركة، خصوصًا انا بعضًا منها قد أُغرق بالفعل كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يوضح الشكل أن الهجمات أغرقت سفينتين، ودمرت سبع سُفن بينما أضرمت النيران في ثمانية من بينها، وبالتالي بدأت ترتفع مخاوف المرور ومعها أسعار التأمين، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انخفاض حركة المرور بشكل حاد عبر المضيق، كما يوضح الشكل التالي:

أهمية المضيق بالنسبة للدول العربية

تأتي أهمية المضيق بالنسبة للدول العربية من كونه ممرًا حتميًا للسُفن العابرة لقناة السويس سواء في طريق الدخول أو الخروج منها، وبالتالي فإن أهميته تقترن بها اقترانًا لا ينفصم، وبالتالي فإن أهميته تصل إلى درجة الاستراتيجية بالنسبة للمجموعات التالية من الدول العربية:

 

مُصدري النفط من الخليج

تزايد اعتماد الدول العربية المُصدرة للنفط على مضيق باب المندب مُنذ الحرب الروسية الأوكرانية التي حولت المقصد الأكبر للنفط من أسيا إلى أوروبا بعد العقوبات الاقتصادية الأوروبية على قطاع النفط الروسي، ما دفعه للبحث عن مُشترين جُدد وجدهم في كُلًا من روسيا والصين اللذين اُعتبرا تقليديًا من أهم المُشترين للنفط العربي الخليجي، في ذات الوقت بدأت أوروبا تبحث عن مُوردين جُدد بديلًا عن الروس، مما حول المسارات إلى حول العالم، ليُصدر النفط الروسي إلى أسيا، بينما ورد النفط العربي إلى أوروبا، وبالتالي تنامت أهمية المضيق لتجارة النفط في العالم وخصوصًا للدول العربية، يوضح الشكل التالي، أهم وجهات النفط والمُنتجات البترولية في عام ٢٠٢٢، قبل تحول الوجهات بسبب الحرب الروسية الأوكرانية:

 

 

مع ارتفاع خطورة المرور في المضيق باتت ناقلات النفط تسلك طريق رأس الرجاء الصالح بدلًا من قناة السويس ما عقد من لوجستيات العملية وفي ذات الوقت خفض عدد السُفن المُتاحة لن تكون مُتاحة لفترات أطول لإعادة الشحن مرة أخرى، ما يؤثر على استدامة عمليات الشحن ويضع عوائق عديدة أمام وصول المُنتج للسوق، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يُظهر الشكل أن الرحلة من ميناء رأس تنورة في المملكة العربية السعودية على الخليج العربي إلي ميناء روتردام في هولندا تستغرق ١٩ يومٍا وأربع ساعات عند سرعة ١٥ عُقدة عبر طريق باب المندب- قناة السويس، بينما بزيادة ٧٥٪ عبر طريق رأس الرجاء بأكثر من ٣٣ ساعة، الأمر الذي يعني تعطل ناقلت النفط في هذه الرحلة بذات النسبة، الأمر الذي قد يتسبب في رفع السعر في المدى القصير لكن سيتسبب في أضرار يصعب عكسها في المدى الطويل كما سنفرد لذلك لاحقِ.

 

كذلك يتضح أن كميات النفط المنقولة عبر طريق باب المندب -قناة السويس ظل في اتجاه الزيادة خلال السنوات الخمس الأخيرة، إذ نمي من مُستويات ٦.٤ مليون برميل يوميًا في ٢٠١٨ إلي ٨.٦ مليونًا في ٢٠٢٣، على عكس الوضع في طريق رأس الرجاء الصالح والذي تراجعت عبره مُعدلات الشحن إلي ٦ مليون برميل في ٢٠٢٣ بعد بلوغها ٧.٦ مليونًا في ٢٠١٨، ويرجع ذلك في مُعظمه لسببين أساسيين وهما انخفاض الكميات المنقولة من الخليج والولايات المُتحدة والاعتماد بشكل أكبر على الطريق البديل والأقصر عبر قناة السويس، وهو ما تغير في الوقت الحاضر بسبب التوترات في باب المندب.

 

شمال إفريقيا

تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لمُعظم الدول العربية بالإضافة إلى وجود علاقات تجارية مُتنامية بين دول جنوب شرق أسيا مثل كوريا الجنوبية، الهند، اليابان، واندونيسيا، والمجموعة العربية، وبالتالي فإن بضائع بعشرات المليارات من الدولارات يجري نقلها عبر المضيق وقناة السويس خصوصًا لدول شمال إفريقيا، كما يوضح الجدول التالي:

 

 

يوضح الشكل أن بضائع قيمتها ٤٦.٥ مليار دولار تستوردها دول شمال إفريقيا من الدول الأسيوية الخمس الواردة في الجدول فقط، لذلك فإن إعاقة وصول هذه البضائع إلى وجهاتها يضغط على الأسواق بشكل حاد، خصوصًا إذا كانت هذه السلع من الأغذية أو المُدخلات الصناعية الهامة، خصوصًا وأن هذه الأسواق تُعاني ضغوطًا حادة بسبب ارتفاع مُعدلات التضخم العالمية، ومُعدلات الفائدة، بالإضافة إلى مُعضلات الشحن التي حدثت أثناء جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، نضغط مُعدلات التضخم المُرتفعة على اقتصادات دول شمال إفريقيا بشكل حاد، بما يؤثر على مُعدلات النمو والفقر والتوظف بشكل غير مُباشر في المديين المتوسط والطويل، خصوصًا في مصر، تونس وليبيا.

 

 انخفاض الحمولة العابرة في قناة السويس

تأتي مصر كأحد أكبر المُتأثرين من الاضطرابات الحادثة في المضيق التي تُعيق أو تؤثر على حركة الملاحة فيه، فبالإضافة إلى الضغوط التضخمية السابق الإشارة إليها، يتضاعف بسبب الانخفاض الحاد في حجم الحمولات التي تُقدر على أساسها إيرادات القناة، والتي تأتي كخامس أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر، ومع كل اضطراب في مضيق باب المندب تنخفض حركة السُفن في القناة تخوفًا من التعرض للهجوم، وبالتالي تنخفض الحمولات على إثر ارتفاع تكاليف التأمين لعبور باب المندب من ناحية، وتزايد مُعدلات الاستهداف للسُفن العابرة من ناحية أخري، في سلسلة من التفاعلات تُسفر في النهاية عن انخفاض حاد في الحمولات المارة عبر القناة مما يؤدي إلى انخفاض الإيرادات بشدة على نحو ما نستعرض لاحقًا، ويوضح الشكل التالي كيف انخفضت الحمولات العابرة في القناة:

 

 

يوضح الشكل أن الحمولات العابرة في القناة خلال عام ٢٠٢٣ كانت تُحقق مُعدلات أعلى عند ١.٦٨ مليار طُن، مُقارنة بعام ٢٠٢٢ الذي حققت خلاله ١.٤٨ مليار طُن متري بنسبة زيادة تصل إلى ١٤٪ خلال عام واحد، لتنخفض هذه الحمولات خلال الأشهر الست الأولى من ٢٠٢٤ إلى ٣١٥ مليون طُن، بالمُقارنة بنحو ٨٣٦ في ذات الفترة من ٢٠٢٣ وبنسبة ٦٢٪، تأتي هذه الانخفاضات في وقت يُعاني فيه الاقتصاد المصري انخفاضات حادة في التدفقات النقدية من المصادر المُختلفة، بالإضافة لمزيد من الضغوط المُرتفعة الناتجة عن العمليات الحربية في غزة والسودان وليبيا ما يضاعف تأثير شٌح العُملة الأجنبية على الاقتصاد المصري.

الانعكاسات الاستراتيجية لإعاقة الملاحة في باب المندب على الدول العربية

بالإضافة إلى التداعيات الحالة السابقة فإن إعاقة الملاحة في حال استمرارها لفترات أطول، أو تكرارها على فترات مُتقاربة فإنه قد تُسفر عن التداعيات الاستراتيجية التالية:

 

تغير طُرق النقل البحري

إعاقة مرور التجارة عبر قناة السويس حفزت شركات الشحن لإعادة توجيه السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح، الذي يُغير الطريق ابتداءًا من بحر العرب وبالتالي فإنه وإن كان يضر مؤانئ البحر الأحمر في المملكة العربية والسودان ومصر، إلا أن موانئ الخليج العربي وبحر العرب خصوصًا في عُمان والإمارات مازالت على أهميتها، ليس فقط بالنسبة للصادرات البترولية بل حتى كمُقدم أساسي للوجستيات والخدمات البحرية، بسبب وقوعها قبل المضيق في حال كان اتجاه التجارة من الشرق إلى الغرب، أو بعده في حال عكس الاتجاه إذا كانت التجارة قادمة من رأس الرجاء الصالح في اتجاه الموانئ الأسيوية .

 

لكن استمرار الاضطراب لفترات طويلة سيدفع شركات الشحن والتأمين وقوى أخرى من الدول إلي البحث عن طُرق أكثر استدامة، تتجاوز كُلًا من المضيق والقناة مع مُراعاة عاملي التكلفة والنقل، بحيث تكون المسافة معقولة وبالتالي تكون التكلفة أقل من نظيرتها في حالة الدوران حول إفريقيا، ولعل أهم الطُرق التي تُقدم هذه المُعادلة -مع عدد من القيود- هو طريق بحر الشمال الذي يجتاز القطب الشمالي بمُحاذاة الحدود الروسية ليتجاوز اليابسة بين الشرق والغرب من الشمال بدلًا من الجنوب .

 

تحاول روسيا مُنذ عام ٢٠١٠ الترويج لهذا الطريق كبديل للمرور في قناة السويس، وقد لاقت جهودها نجاحًا ملحوظًا بعدما بدأت تتغلب تدريجيًا على بعض أهم العوائق أمام استخدامه وأهمها احتياجه إلي كاسحات جليد لتحمي السُفن المارة كُتل الجليد السائبة في الطريق ولتشق الطريق أمام مواكب السُفن، عندما وفرت كاسحات جليد نووية ذات تكلفة تشغيلية زهيدة ، ثم توفير عدد من الموانئ التي تُقدم خدمات لوجيستية على الطول الطريق، وأخيرًا ساعد في ذلك تسارع مُعدلات ذوبان الجليد في القُطب الشمالي بسبب ارتفاع درجات حرارة الأرض مما جعل هذا الممر الموسمي يكون مُتاحًا لفترة أطول خلال فصل الصيف بعدما كان يُتاح لفترات أقصر كثيرًا في ظل درجات حرارة أقل .

 

أثمرت هذه الجهود حيث ظلت ترتفع مُعدلات المرور من خلال الطريق ومعها حجم الحمولة لتتضاعف أكثر من عشر أضعاف خلال الفترة ما بين ٢٠١١ ،٢٠٢١ عندما ارتفعت إجمالي الحمولة خلال العام من ٣.١ مليون طن إلى نحو ٣٤.٨ مليونًا، قبل أن تنتكس في عام ٢٠٢٢ على إثر الحرب الروسية الأوكرانية والإجراءات العقابية التي اتخذها الغرب تجاه روسيا إلى ٣٤ مليونًا خلال كامل العام ، ولم تُعلن السُلطات الروسية عن إحصائيات عام ٢٠٢٣ لأحد سببين -على الأرجح- أو كلاهما أولهما انخفاض هذه المُعدلات بشدة إلى رُبما لأقل من نصف هذه المُعدلات، وثانيهما عدم الإعلان عن حجم النفط المنقول تحت طائلة العقوبات على متن ما يُعرف بأسطول الظل.

 

لكن الاضطرابات في مضيق باب المندب بثت الروح مُجددًا في هذا الممر بسبب نواقص طريق رأس الرجاء الصالح، ولذلك بعدما أضافت الصين مضائق طريق بحر الشمال: البيرنج وديميتري لابتيف وفيليكيتسكي وكارا إلى قائمة ممراتها البحرية خلال يوليو ٢٠٢٤ ، بما يُشير إلى الاهتمام الصيني المُتنامي بالممر، وهو ما يُلاقي الآمال الروسية بتحويله إلى ممر أساسي استراتيجي للتجارة الدولية، خصوصًا لنقل الطاقة، والتي يُعتبر الطرفان فيها شريكين استراتيجيين، وكلاهما يعتبر أمن الطاقة من بين أولويات أمنهما القومي.

 

في حال نجاح هذه الجهود ستجد الموانئ الخليجية على بحر العرب والخليج العربي والبحر الأحمر بالإضافة إلى قناة السويس في مواجهة حادة مع موانئ بحر الشمال، ما سيُسفر عن فقدان هذه الموانئ أهميتها الاستراتيجية أو على الأقل فُقدان جُزء مُعتبرًا منها، قد تؤدي إلى فقدان موانئ مثل جبل على، وصُحار وصلالة، أهميتها كوجهات لوجيستية عالمية، أو قناة السويس كممر بحري رئيسي، يُصاحب هذه الخسارة بالتأكيد خسارة مداخيل اقتصادية طائلة، تُعد في مصر على سبيل المثال المصدر الخامس للنقد الأجنبي.

 

هذه التهديد وإن كان يلوح في المُستقبل إلا إنه مازال يواجه ذاته العديد من التحديات أهمها الخلاف الحاد المُتنامي بين المُعسكر الغربي وكُلًا من روسيا والصين، وهو خلاف لا يتوقع له أن يتقلص بل العكس في اتجاه التنامي، ومع تنامي هذا الخلاف، سيمتنع الغرب عن استعمال الممر الروسي كُلما أمكن ذلك، حتى لا يُعطي روسيا مزيدًا من أوراق الضغط أو مصادر الدخل، كذلك لا بد من الإشارة إلى الفرق الهائل في حجم الحمولة المنقولة حيث أن حجم البضائع المنقولة في الممر خلال عام كامل، أقل من حجمها خلال قناة السويس يوميًا خلال الأوقات العادية، أخيرًا فإن الرحلة بين الشرق والغرب عبر المضيق والقناة تعبر عشرات الموانئ والوجهات بما يضمن شحنًا وتفريغًا مُتعددًا للسُفن طوال الرحلة، ما يرفع من أرباح شركات الشحن، ويُخفض التكلفة.

 

 تسارع التحول عن الطاقة الأحفورية

تعتبر الطاقة الأحفورية عالمية، حيث أن مناطق استهلاكها الرئيسية تبعد -في الغالب- آلاف الأميال عن مناطق إنتاجها، وبالتالي يجري نقلها بين هذه المناطق في مُعظم الأوقات عبر ممرات بحرية، حيث أن أرخص وسائل النقل نسبة إلى الكميات المنقولة هي النقل البحري، لكن ما يعيب هذه الوسيلة اضطرارها إلى عبور عدد من المضائق والقنوات البحرية المُنتشرة التي تُتأثر الملاحة فيها بالتغيرات المُناخية والتوترات السياسية بما يُعرض المُنتج المنقول وتدفقه للتأخر أو عدم الوصول إلى أسواق استهلاكه، وبالتالي تحدث اضطرابات حادة في الأسواق، بشكل عام بسبب مركزية الطاقة في عملية الإنتاج، ولذلك فإن المُستهلكين حال استمرت الاضطرابات قد يتجهون إلى أنواع أخري من الطاقة تُنتج محليًا، بحيث تنخفض مخاطر الإنتاج والنقل للطاقة الأحفورية ، يوضح الشكل التالي تأثير الفورة النفطية الأولى على اتجاهات فرنسا وألمانيا لبناء المُفاعلات النووية بعد المُقاطعة النفطية العربية للدول الأوربية إبان حرب أكتوبر ١٩٧٣.

 

 

ينطبق الوضع السابق على باب المندب، حيث يُعيق الحوثيين نقل الطاقة من أهم مناطق إنتاجها في الخليج إلى أهم مناطق استهلاكها في أوروبا، التي كانت قد عانت للتو من توظيف روسيا للطاقة كسلاح هدد بحجب الدفء عن كامل القارة خلال شتاء عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، ما دفعها دفعًا لأخر للخليج كأخر المناطق التي يُمكن الاعتماد عليها لإمدادات كافية ومُستديمة بالطاقة، الأمر الذي بات الآن محل اختبار بسبب الاضطرابات في باب المندب، ما سيحث الأوروبيين في النهاية إلى تعظيم قُدراتهم الذاتية على الإنتاج المحلي، بحيث تقل بنسب مُعتبرة العوائق التي قد تقف في طريق تدفقات الطاقة.

 

سيزيد الأوروبيين تصميمًا في هذا السياق التغيرات المُناخية الحادة التي تضرب العالم وخططهم للتخلي عن الطاقة الأحفورية والتحول لطاقات أقل تلويثًا مثل الطاقة النووية، وطاقتي الشمس والرياح، بالإضافة إلى الارتفاع المُستمر في درجات الحرارة الذي يُقلل كفاءة الحرق والتوليد في المحطات الحرارية التي تعمل بالطاقة الأحفورية، وأخيرًا انخفاض التكاليف الإنشائية لمحطات الطاقة الشمسية والرياح مُقارنة بتكلفتها التاريخية، مع ارتفاع مُعدلات أمانها مُقارنة بالمحطات النووية، ما يجعل أوروبا كُمستهلك واقعة بين عوامل جذب وطرد تدفع في ذات اتجاه التخلي التدريجي عن الوقود الأحفوري وخصوصًا النفط.

 

ستعاني الدول العربية المُصدرة للنفط بشكل عام وخصوصًا دول الخليج العربي مع كل تسارع في التحول عن الوقود الأحفوري، ليس فقط بسبب الخسارة الهائلة للاحتياطيات الضخمة منه، لكن بسبب عدم الاستعداد الكامل لهذه الاقتصادات للتخلي عن الاعتماد عليه كمصدر رئيسي للدخل القومي حتى الآن، رغم تسارع خُطاها لتنويع هياكلها الاقتصادية بحيث ينخفض اعتمادها على النفط، لكن ذلك ما زال يستدعي فترات أطول.

 

في الختام، يُشير الوضع الراهن في البحر الأحمر إلى أننا أمام تحول استراتيجي محتمل في المدى الطويل لطرق التجارة العالمية، مدفوعًا بتزايد التهديدات التي يتعرض لها مضيق باب المندب. تُعد دول الخليج العربي ومصر من أكثر الدول المُتأثرة بهذه التطورات، حيث تعتمد بشكل كبير على المضيق لتصدير النفط وتأمين الإيرادات من حركة المرور عبر قناة السويس.

 

إذ يُنذر استمرار هذه الاضطرابات بتحول كبير في تجارة الطاقة العالمية وتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، مما قد يترك تداعيات سلبية على اقتصادات دول الخليج -وبشكل أقل على مصر- التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط. علاوة على ذلك، يُهدد تحول طرق التجارة البحرية إلى طرق بديلة مثل طريق بحر الشمال أو طريق رأس الرجاء الصالح، بتقليل أهمية الموانئ الخليجية وقناة السويس، مما سيؤثر سلبًا على اقتصادات المنطقة.

 

لذلك، من الضروري اتخاذ إجراءات عربية فورية للضغط على إسرائيل أولًا لوقف حربها في قطاع غزة، ثم على إيران لوقف دعمها للحوثيين ووقف هجماتهم على الملاحة في المضيق، أخيرًا يجب حث المجتمع الدولي للتحرك سريعًا لضمان حرية الملاحة في هذا الممر المائي الحيوي، ليس فقط لحماية المصالح الاقتصادية للدول العربية، ولكن أيضًا لضمان استقرار الاقتصاد العالمي وأمن الطاقة.

المراجع

Tara Copp, Lolita Baldor, US military shoots down missiles and drones as it faces growing threats in volatile Middle East, AP, 20th Oct, 2024, Accessed: 25th Jul 2024, Available at: US Navy warship shoots down three missiles fired from Yemen | AP News

 

Guardian Staff, Yemen’s Houthi rebels seize cargo ship in Red Sea and call Israeli vessels ‘legitimate targets’, The Guardian,  20th Nov 2023, , Accessed: 25th Jul 2024, Available at: https://www.theguardian.com/world/2023/nov/20/yemen-houthi-rebels-seize-cargo-ship-galaxy-leader-red-sea-israel

 

Liu, Miaojia, and Jacob Kronbak. “The potential economic viability of using the Northern Sea Route (NSR) as an alternative route between Asia and Europe.” Journal of transport Geography 18.3 (2010): 434-444.

 

The Moscow Times, Putin Gives Go-Ahead to New Nuclear Icebreaker, 26th Jan, 2024, Accessed: 25th Jul 2024, Available at: https://www.themoscowtimes.com/2024/01/26/putin-gives-go-ahead-to-new-nuclear-icebreaker-a83873

 

Malte Humpert, The Future of the Northern Sea Route – A “Golden Waterway” or a Niche Trade Route, The Arctic Institute, 15th Sep 2011,  Accessed: 25th Jul 2024, Available at: https://www.thearcticinstitute.org/future-northern-sea-route-golden-waterway-niche/

 

Northen Sea Route information office, Shipping traffic at the NSR in 2022, 06th Jun 2023, Accessed: 25th Jul 2024, Available at: https://arctic-lio.com/nsr-2022-short-report/

 

كفاية أولير، روسيا والصين تُخططان لإنشاء طريق الحريري الجليدي، اندبندنت عربية، ١٦ يوليو ٢٠٢٤، أُطلع عليه في تاريخ ٢٥ يوليو ٢٠٢٤، مُتاح على https://www.independentarabia.com/node/598281/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%AE%D8%B7%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%A1-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%AF%D9%8A.

 

World Nuclear Association, Nuclear Power and Energy Security, 16th Apr, 2024, Accessed: 25th Jul 2024, Available at: https://world-nuclear.org/information-library/economic-aspects/nuclear-power-and-energy-security

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *