يبدوا أن نسخة أولمبياد باريس 2024 المقامة حاليًا في فرنسا ستكون فريدة من نوعها؛ فعلى الرغم من أن الألعاب الأولمبية لطالما كانت مسيسة، إلا أنها تُقام هذه المرة وسط حالةٍ متزايدة من عدم اليقين وعدم الاستقرار في البلد المضيف فضلًا عن مسرحٍ عالمي ساخن بالفعل بسبب حربين قائمتين مما يجعلها دورة أولمبية مميزة بشكل خاص. ومن المتوقع أن يستغل الرئيس إيمانويل ماكرون هذا الحدث المرتقب سعيًا منه لاستعادة بعض هيبته التي فقدها عقب هزيمة حزبه في الانتخابات المبكرة التي دعا إليها. ومع ذلك، من المرجح أن تواجه فرنسا مجموعةً من التحديات الداخلية والخارجية حيث من المحتمل أن تطغى الأحداث السياسية على الأداء الرياضي.

صداع ماكرون

تشهد فرنسا فترةً من عدم الاستقرار في أعقاب الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث فاز اليمين بالعدد الأكبر من الأصوات بينما حصل اليسار على العدد الأكبر من المقاعد. وقد تركت هذه النتيجة الرئيس ماكرون يواجه ارتباكًا أكبر مما كان يهدف إلى معالجته من خلال الدعوة إلى عقد انتخابات مبكرة. وكان ماكرون قد فاجأ حزبه بالدعوة إلى عقد انتخابات مبكرة عقب تعرضه لهزيمةٍ كبيرة أمام اليمين المتطرف الذي خاض الانتخابات ببرنامج مناهض له في الانتخابات الأوروبية في يونيو الماضي، ولكن مُني ائتلاف ماكرون بخسارةٍ ثانية في الانتخابات النيابية وخسر العديد من المقاعد. وقد وصلت التوترات إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في الأسابيع الأخيرة مع عدم تمكن أي حزب أو ائتلاف منفرد من الحصول على الأغلبية اللازمة في البرلمان لتشكيل الحكومة. وبينما لا ينازع أحد في مهارات ماكرون في إلقاء الخطب، إلا أنه الآن في وضع لا يُحسد عليه وبات مطلوبًا منه مخاطبة العالم خلال فترة ضعف دون أن يكون هناك رئيس وزراء إلى جانبه فضلًا عن أنه يتولى قيادة حكومة تصريف أعمال تدرك أنها تتولى المسؤولية لفترةٍ مؤقتة فقط.

 

ومع ذلك، سيحاول ماكرون الاستفادة من هذه اللحظة حيث تمثل إقامة دورة الألعاب الأولمبية في باريس هذا العام فرصةً فريدة لطي صفحة مشاكله واستعادة بعض زخمه السياسي. وقد كانت استضافة دورة الألعاب الأولمبية بمثابة أولوية قصوى بالنسبة له منذ بداية رئاسته؛ فبعد أقل من شهرين من توليه منصبه في عام 2017، حضر ماكرون حدثًا للجنة الأولمبية الدولية في مدينة لوزان بسويسرا للضغط من أجل منح حق استضافة نسخة 2024 إلى باريس. وبفضل مشروع قانون خاص قدمته حكومة ماكرون في عام 2018 بشأن اعتماد لوائح بناء المرافق الأولمبية، تم الانتهاء من إنشاء أكثر من 80 مبنىً في القرية الأولمبية في زمن قياسي في وقت سابق من هذا العام، إذ يعتبر ماكرون استضافة الأولمبياد انتصارا سياسيا يجب استغلاله.

 

ومع ذلك، أثبتت الأسابيع التي سبقت حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 أنها كانت الأصعب على الرئيس الفرنسي، وكان من المتوقع أن تشهد العاصمة الفرنسية مستوى ما من الفوضى أو الهجمات أو الاضطرابات، وهو ما انعكس في انخفاض عدد السياح الذين يصلون إلى باريس. وفي حين أن انخفاض عدد السياح يُعزى لعدة عوامل متداخلة تتمثل في الارتفاع الكبير في أسعار الفنادق وسمعة الباريسيين بأنهم “وقحون” مع السياح، فإن الفوضى المتوقعة شكلت أكبر مصدر قلق للسياح. وقبل أيام قليلة من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية، أُلقِي القبض على شابين يبلغان من العمر 18 عاما بتهمة الإعداد لهجماتٍ إرهابية وفقا لمكتب الادعاء الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت خطوط السكك الحديدية الفرنسية فائقة السرعة لعدة هجمات منسقة قبل ساعات من انطلاق حفل الافتتاح، حيث وصف رئيس الوزراء جابرييل أتال تلك الهجمات بأنها “أعمال تخريبية”.

 

في الواقع، لا يمكن فصل هذه الأعمال التخريبية عن الوضع السياسي في فرنسا أو السياق العالمي الأوسع. وكما تم النظر إلى هجمات باتاكلان في عام 2015 في ضوء تصاعد الإرهاب العالمي، وخاصةً الإرهاب الجهادي الإسلامي، ينبغي لنا أن ننظر إلى هجمات هذا العام من خلال عدسة مماثلة. وفي البداية، كان يُشتبه في أن موسكو هي من دبرت تلك الهجمات على السكك الحديدية فائقة السرعة، لكن أجهزة الأمن الفرنسية وسلطات السكك الحديدية استبعدت ذلك، حيث تبين أن الأساليب المستخدمة كانت مماثلة لتلك المستخدمة في محاولات التخريب السابقة التي قامت بها الجماعات اليسارية المتطرفة. علاوة على ذلك، أشارت سلطات السكك الحديدية الفرنسية إلى أن تلك الهجمات تتطلب معرفة دقيقة بتفاصيل البنية التحتية للسكك الحديدية. من جهتها، وجهت إسرائيل أصابع الاتهام إلى إيران التي تُعد خصمها الرئيسي في الشرق الأوسط، حيث قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن “تخريب البنية التحتية للسكك الحديدية في فرنسا قبل أولمبياد باريس 2024 تم تخطيطه وتنفيذه تحت تأثير محور الشر الإيراني والإسلام الراديكالي”. ومن ثم، فإن الوضع العام في فرنسا يعكس عدم الاستقرار السياسي العالمي والمحلي، وهو ما ينعكس بدوره على الألعاب الأوليمبية.

الأسوأ لم يأت بعد!

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، دأبت الدول الغربية على شيطنة موسكو والترويج لفكرة أن روسيا دولة منبوذة على مستوى العالم. ومع استضافة زعيم أوروبي للألعاب الأوليمبية هذا العام، توقع كثيرون أن يُمنع الروس من المشاركة في الألعاب الأوليمبية. ومع ذلك، فإن قواعد اللجنة الأولمبية الدولية تسمح للرياضيين الروس والبيلاروسيين بالمنافسة، بشرط ألا يدعموا الحرب بشكلٍ فعال أو يعملوا لصالح الجيش أو أجهزة الأمن القومي في بلادهم. وعلى الرغم من هذه القواعد الصارمة، فقد توصل تحقيق حديث إلى أن 33 من الرياضيين الروس والبيلاروسيين الـ 57 الذين أعلنوا عن تأهلهم للبطولة أيدوا حقًا الحرب في أوكرانيا. ويمتد الجدل إلى ما هو أبعد من الرياضيين أنفسهم، حيث أعرب كثيرون عن غضبهم إزاء وجود عضوين روسيين في اللجنة الأولمبية الدولية. كما أضاف الصراع بين إسرائيل وحماس طبقةً أخرى من الخلاف، وهو ما زاد من تسييس الألعاب الأولمبية؛ فعلى سبيل المثال، اضطرت شركة أديداس قبل أيامٍ من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية إلى وقف حملتها بعد انتقاد إسرائيليين لها بسبب تورط عارضة الأزياء بيلا حديد في الترويج للأحذية الرياضية القديمة SL72. واعتبر الإسرائيليون أنه من “المهين” أن ترتدي عارضة أزياء تحمل جذورا فلسطينية حذاء أُطلق لأول مرة بمناسبة انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972 حينما قُتل 11 إسرائيليًا على يد مجموعة فلسطينية. وفي حين أعلنت اللجنة الأولمبية الدولية بوضوحٍ موقفها بشأن منع الرياضيين الروس والبيلاروسيين الذين يدعمون الحرب من المنافسة، فقد ظلت صامتة بشأن مسألة الرياضيين الإسرائيليين، ما دفع الكثيرين إلى التشكيك في موقف اللجنة الأولمبية الدولية وحياديتها.

 

بالإضافة إلى المخاوف الكبيرة بشأن مشاركة الرياضيين الروسيين والإسرائيليين في دورة الألعاب الأولمبية، فإن باريس قد تواجه مشكلات إضافية تتعلق بالأمن والمراقبة باستخدام الذكاء الاصطناعي في أعقاب الألعاب الأولمبية بعدما أعلنت فرنسا عن خططٍ لاستخدام أنظمة المراقبة بالذكاء الاصطناعي ردًا على التهديدات الأمنية. ومن ناحيةٍ أخرى، قد تواجه فرنسا مطالبات للتدقيق وقضايا قانونية محتملة من جيرانها الأوروبيين وفقًا لقانون الذكاء الاصطناعي الذي أقره الاتحاد الأوروبي مؤخرًا، حيث يحظر القانون عمومًا تحديد الهوية البيومترية عن بعد في الوقت الفعلي في الأماكن العامة. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تندرج أنظمة المراقبة المستخدمة خلال الألعاب الأولمبية ضمن الفئة عالية المخاطر إذ يجب أن تمتثل هذه الأنظمة لمتطلبات صارمة بشأن إدارة المخاطر وإدارة البيانات والشفافية والرقابة البشرية وتدابير الأمن السيبراني القوية، وسيتعين على فرنسا ضمان التزام جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة في المراقبة بهذه اللوائح لتلافي العقوبات. كما يسمح القانون أيضًا للأفراد بتقديم شكاوى وطلب تفسيرات للقرارات المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، لذا يجب على فرنسا اتخاذ تدابير الحماية لمنع أي سوء استخدام محتمل للمراقبة بالذكاء الاصطناعي، وإلا فإنها قد تقع في مشكلات كبيرة مع الاتحاد الأوروبي.

 

بوجهٍ عام، يبدو أن دورة الألعاب الأولمبية في باريس مسيسة للغاية، وحتمًا سيؤثر الوضع الداخلي في فرنسا على هذا الحدث العالمي الكبير، حيث يسعى الساسة غالبًا إلى استغلال مثل هذه المناسبات العالمية. وبالنسبة للرئيس ماكرون، فإن دورة الألعاب الأولمبية يمكن أن تمثل فرصةً أخيرة له لتحسين صورته السياسية بعد سلسلةٍ من الانتكاسات التي تعرض لها، لكن قد تؤدي التحديات التي تواجهه على الصعيدين الدولي والأوروبي إلى الحد من قدرته على الاستفادة من هذه الفرصة بشكلٍ كامل.

المراجع

Barbero, Michele. “Will the 2024 Paris Olympics Impact the Political Legacies of Macron, Hidalgo?” Foreign Policy, 2024. https://foreignpolicy.com/2024/07/11/paris-olympics-macron-hidalgo-snap-elections-politics-seine/

 

Caulcutt, Clea. “Macron Hopes Glitzy Olympics Can Deliver Political Breather.” POLITICO, July 26, 2024. https://www.politico.eu/article/emmanuel-macron-france-paris-2024-olympics-elections-politics-fortune-games-world-sports/

 

Corbet, Sylvie. “Macron Aims to Sidestep Political Concerns and Regain Prestige with the Paris Olympics.” AP News, July 25, 2024. https://apnews.com/article/olympics-2024-paris-macron-politics-0b188022db15da870b3f52a3e33f401f

 

Kirby, Lipika Pelham and Paul. “French High-Speed Rail ‘sabotaged’ before Olympic Ceremony.” BBC News, July 26, 2024. https://www.bbc.com/news/articles/cv2gd9pqwlxo

 

Kovalova, Inna. “‘guardian of the Olympic Games’ Ignores Dossier Showing over Two Thirds of Russian Athletes Set to Compete at Paris Olympics Have Violated Participating Ukraine War Neutrality Rules.” Global Rights Compliance, July 22, 2024. https://globalrightscompliance.com/2024/07/18/guardian-of-the-olympic-games-ignores-dossier-showing-over-two-thirds-of-russian-athletes-set-to-compete-at-paris-olympics-have-violated-participating-ukraine-war-neutrality-rules/

 

Rahman, Mujtaba. “X.Com.” X (formerly Twitter), 2024. https://x.com/mij_europe/status/1816825795848945855?s=48&t=By0V-zKMzOOqj8jPSkCBHg

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *