تواجه فرنسا أزمة سياسية غير مسبوقة تتخذ مسارًا معقدًا يهدد استقرار النظام السياسي برمّته. فمنذ يونيو الماضي، أدت دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لإجراء انتخابات مبكرة إلى زعزعة المشهد السياسي في البلاد، ما أوقع فرنسا في حالة اضطراب سياسي حاد. وتصاعدت الأحداث سريعًا، ما أدى في نهاية المطاف إلى استقالة ميشيل بارنييه، الذي بات صاحب أقصر فترة ولاية لرئيس وزراء في التاريخ الحديث، حيث لم تدم حكومته أكثر من ثلاثة أشهر. ولم تقتصر تداعيات هذه الأزمة على فرنسا فقط؛ بل امتدت تداعياتها لتشمل القارة الأوروبية بأكملها. ومع تصاعد الانتقادات الموجهة لماكرون باعتباره المسؤول الرئيسي عن هذه الأزمة، يبقى السؤال الأبرز: هل سيجبر قريبًا على مغادرة منصبه؟

ماذا حدث بالضبط؟

بدأت الأزمة مع دعوة ماكرون لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهي خطوة جاءت على خلفية مخاوفه من التقدم المتسارع للتيار اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية، وكان الهدف من هذه الخطوة تعزيز استقرار ائتلافه الهش في البرلمان، إلا أن هذه الحسابات السياسية جاءت بنتائج عكسية. عوضًا عن تحقيق الاستقرار، أسفرت الانتخابات المبكرة عن برلمان أكثر انقسامًا وشهور من الجمود السياسي، مما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الحكومة.

 

انهارت حكومة بارنييه بعد اقتراح ميزانية العام المقبل التي تضمنت تخفيضات كبيرة في الإنفاق وزيادات في الضرائب، بهدف تقليص العجز المالي الذي تضخم إلى 6.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا – وهو أعلى بكثير من الهدف المحدد بنسبة 5٪. أثارت هذه السياسات جدلاً واسعًا وانتقادات حادة من الطيف السياسي فقد وصف اليسار هذه الخطط بأنها سياسة تقشف قاسية، في حين انتقده الوسطيون من أنصار ماكرون ويمين مارين لوبان المتطرف بسبب رفع الضرائب، وفي نهاية المطاف، انهارت حكومة بارنييه تحت وطأة تصويت حجب الثقة.

 

من الواضح أن ماكرون يتحمل المسؤولية الكبرى عن الأزمة السياسية الحالية في فرنسا. فالقرارات غير المدروسة التي اتخذها لم تفضِ فقط إلى انهيار الحكومة، بل قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد منصبه كرئيس للجمهورية. ومع ذلك، يبدو أن الرئيس الفرنسي عازم على الصمود والبقاء في السلطة. ففي أعقاب انهيار حكومته، حاول ماكرون إعادة تركيز الأنظار على إنجازاته، مستغلاً إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام لتعزيز مكانته السياسية، كما سعى إلى تحقيق مكسب دبلوماسي من خلال استضافة لقاء بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، في أول اجتماع بينهما منذ فوز ترامب في الانتخابات التي جرت مؤخرًا.

هل نقول وداعًا ماكرون؟

قد يجد الرئيس ذو الكاريزما الجذابة، إيمانويل ماكرون، نفسه قريبًا في مواجهة احتمالية عزله من منصبه. وبينما يرى العديد من المراقبين أن نهاية كهذه لمسيرته السياسية ستكون غير مستحقة، تعهدت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بالفعل بتفكيك أي حكومة يحاول ماكرون تشكيلها. تسعى لوبان من خلال استراتيجيتها إلى ممارسة ضغوط مستمرة على ماكرون، مما قد يدفعه إلى الاستقالة لتجنيب فرنسا مزيدًا من الاضطرابات السياسية. ومع ذلك، من المرجح أن يظهر ماكرون قدرًا أكبر من الصمود مما تتوقعه لوبان.

 

عقب انهيار حكومة بارنييه، ألقى ماكرون خطابًا وطنيًا حاسمًا استمر لعشر دقائق، رفض فيه دعوات المعارضة للاستقالة، متعهدًا بإكمال فترة ولايته حتى عام 2027. وللتعامل مع وضعه الصعب، يتعين على ماكرون الالتزام بدقة ببنود الدستور. فوفقًا للدستور الفرنسي، لا يمكن حل الجمعية الوطنية قبل يوليو 2025، مما يعني أن حالة عدم اليقين السياسي ستستمر على الأقل لعام آخر. في هذه الأثناء، سيستمر بارنييه في دوره كرئيس وزراء مؤقت حتى يتمكن ماكرون من اختيار خلف يحظى بدعم ائتلاف جديد. وقد تستغرق هذه العملية أيامًا أو أسابيع أو حتى شهورًا، حيث يشتهر بناء التحالفات في فرنسا بتعقيداته بسبب تركيز الأحزاب السياسية على القضايا الفئوية.

 

ما الخيارات المتاحة أمام ماكرون قبل صيف العام المقبل؟ الإجابة المختصرة هي مشهد مليء بعدم اليقين، أما الإجابة المستفيضة فتتمثل في ثلاثة سيناريوهات محتملة. السيناريو الأول يتمثل في محاولة ماكرون بناء أغلبية جديدة لدعم نوابه الوسطيين وأجندته السياسية. ولتحقيق ذلك، سيحتاج إلى كسب دعم كل من اليمين المحافظ واليسار الوسطي، وربما يعرض منصب رئيس الوزراء كأداة للتفاوض. ويبدو هذا السيناريو الأكثر قابلية للتحقق حاليًا، خاصة بعد أن أبدى زعيم الحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، استعداده للدخول في محادثات مع ماكرون. السيناريو الثاني هو تشكيل حكومة ذات أغلبية يسارية. وعلى الرغم من أن الجبهة الشعبية الجديدة تمتلك أكبر كتلة في الجمعية الوطنية، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى العدد اللازم للأغلبية. ولقيادة الحكومة، سيتعين عليها الحصول على دعم إضافي من الوسط. ومع ذلك، من المرجح أن تواجه هذه الحكومة نفس التحديات التي أسقطت إدارة بارنييه. الخيار الأخير أمام ماكرون هو إعادة تعيين بارنييه كرئيس للوزراء، شريطة أن يقدم بارنييه ميزانية معدلة تتضمن تنازلات لكسب دعم كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف.

 

ولكن هل يعني هذا أن ماكرون في مأمن من الإطاحة به من منصبه؟ ليس بالضرورة. فمن غير المرجح أن تحقق الخيارات المتاحة له الاستقرار الذي تحتاج إليه فرنسا بشدة قبل يوليو2025، وهو أقرب وقت يمكن أن يدعو فيه إلى إجراء انتخابات برلمانية. وفي حين يمنح الدستور الفرنسي الرئيس سلطات واسعة النطاق أثناء الأزمات ــ بما في ذلك سلطة الدعوة إلى الاستفتاءات أو استدعاء التدابير الطارئة الاستثنائية المنصوص عليها في المادة 16 ــ فإن هذه الأحكام مخصصة لسيناريوهات الحرب ونادرا ما تمارس. ومن غير المحتمل أن يلجأ ماكرون إلى مثل هذه الإجراءات الجذرية، لأن القيام بذلك من المرجح أن يثير مقاومة أقوى من جانب المعارضة والجمهور. وبالتالي، تظل إمكانية ترك ماكرون لمنصبه قبل انتهاء ولايته في عام 2027 معقولة.

 

وعلى الصعيد المالي، من المتوقع أن تواجه فرنسا عجزًا في الميزانية يصل إلى 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025 ــ وهو أكثر من ضعف المعيار الذي وضعه الاتحاد الأوروبي وهو 3%. وعلى الرغم من هذا، سوف تتجنب البلاد إغلاق الحكومة على الطريقة الأميركية، حيث يسمح النظام الفرنسي باستمرار ميزانية عام 2024 حتى تشكيل حكومة جديدة. ومع ذلك، وباعتبارها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، فإن فرنسا ملزمة بالحفاظ على عجز ميزانيتها السنوية أقل من 3%. ومع تجاوز العجز الحالي 5%، فإن أي حكومة جديدة سوف تواجه ضغوطًا هائلة لإقرار تخفيضات، خاصة وأن العجز ارتفع في أعقاب جائحة كوفيد-19.

كيف تؤثر أزمة فرنسا على أوروبا؟

إن تداعيات الأزمة في فرنسا لا يمكن حصرها داخل حدودها، فباعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد ألمانيا وأقوى قوة عسكرية في أوروبا إلى جانب المملكة المتحدة، فإن أي عدم استقرار سياسي أو اقتصادي في فرنسا سيؤثر حتمًا على القارة بأكملها. تأتي الاضطرابات في فرنسا في لحظة حرجة تحتاج فيها أوروبا بشكل عاجل إلى قيادة حازمة من لاعبيها الرئيسيين، فرنسا وألمانيا، التي تواجه هي الأخرى تحديات سياسية داخلية. كما أن استمرار حالة عدم الاستقرار في فرنسا—سواء كانت سياسية أو اقتصادية—يهدد بتقويض قدرة الاتحاد الأوروبي على إظهار الوحدة والقيادة، خاصة في ظل تصاعد التهديدات الأمنية من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.

 

يتطلب الدفاع الأوروبي ودعم أوكرانيا تمويلًا كبيرًا، بيد أن القيود المالية التي تواجهها فرنسا تشكل عقبات هائلة. إذا تم تمديد ميزانية عام 2024 إلى عام 2025 دون تعديلات، فقد تتعرض الزيادة المخطط لها في الإنفاق الدفاعي والبالغة 3.3 مليار يورو للتأخير أو حتى الإلغاء. وبالمثل، قد تواجه المساعدات الثنائية التي تقدمها فرنسا لأوكرانيا مزيدًا من العقبات؛ مع العلم أنه حتى في عام 2024، فشلت فرنسا في الوفاء بالتزامها البالغ 3 مليارات يورو للدعم العسكري.

 

يثير احتمال إجراء انتخابات مبكرة في فرنسا، مع تصدّر مارين لوبان السباق الرئاسي، مخاوف عميقة إزاء مستقبل التزام فرنسا تجاه أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وحتى قبل الوصول إلى هذا السيناريو، كان النفوذ المتزايد لحزب التجمع الوطني الذي تتزعمه لوبان يؤثر تأثيرًا ملحوظًا في النقاشات السياسية في فرنسا، لا سيما في القضايا المحورية مثل الهجرة، والدفاع، والمساعدات المقدمة لأوكرانيا. وقد برز هذا النفوذ بشكل واضح ومقلق خلال مناقشات الميزانية الأخيرة التي انتهت بانهيار الحكومة الفرنسية.

 

اتسمت السياسة الفرنسية في الآونة الأخيرة بعدم القدرة على التنبؤ، ما يجعل من الصعب تحديد ما إذا كان الرئيس إيمانويل ماكرون سيتمكن من إكمال ولايته حتى عام 2027 أو سيواجه خروجه مبكرًا. ومع ذلك، فمن الواضح أن الاستقرار السياسي في فرنسا لن يعود على الأرجح قبل يونيو 2025 على أقل تقدير. ومن اللافت أن اليمين المتطرف كان المستفيد الأكبر من المناورات السياسية الأخيرة التي أقدم عليها ماكرون، ورغم عدم تمكنه بعد من تحقيق الأغلبية البرلمانية، فإن دوره في الساحة السياسية الفرنسية بات محوريًا، ما يجعل تحقيق الأغلبية البرلمانية بحلول عام 2025 أو حتى الوصول إلى الرئاسة في عام 2027 مسألة وقت لا أكثر. ومع ذلك، لا يمكن إغفال العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة للقارة الأوروبية بأسرها.

المراجع

BBC. “Explained: What to Expect in France’s Political and Budget Crisis.” BreakingNews.ie, December 4, 2024. https://www.breakingnews.ie/explained/explainer-what-to-expect-in-frances-political-and-budget-crisis-1704010.html
 
Fathi, Romain. “France’s Government Has Fallen and Political Chaos Has Returned. Here Are 3 Scenarios for What Could Happen Next.” The Conversation, December 7, 2024. https://theconversation.com/frances-government-has-fallen-and-political-chaos-has-returned-here-are-3-scenarios-for-what-could-happen-next-245277
 
Goury-Laffont, Victor. “After Trump Was Late, Zelenskyy-Macron Trilateral Was All Smiles and Handshakes.” POLITICO, December 8, 2024. https://www.politico.eu/article/volodymyr-zelenskyy-donald-trump-emmanuel-macron-hold-first-post-reelection-talks-at-hosted-trilateral-meeting/
 
Howard, Jacqueline. “French President Emmanuel Macron Vows to Name New PM within Days.” BBC News, December 5, 2024. https://www.bbc.com/news/articles/cdd60rzl702o
 
Caulcutt, Clea. “French Socialist Leader Extends Olive Branch to Macron as Talks on next Government Begin.” POLITICO, December 6, 2024. https://www.politico.eu/article/france-socialist-leader-olivier-faure-holds-olive-branch-emmanuel-macron/

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *