في التاسع والعشرين من يوليو 2024، لقيت ثلاث فتيات صغيرات حتفهن في هجومٍ بسكين خلال مهرجانٍ في ليفربول بإنجلترا وأُصيب عشرة آخرون. وأُلقي القبض على المهاجم وهو شاب يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، لكن لم تفصح الشرطة البريطانية عن اسمه نظرًا لحداثة سنه، ما أفسح المجال لانتشار الشائعات. وفي غضون ساعات، ادعى بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من اليمين المتطرف أن المهاجم كان مهاجرًا مسلمًا، ما دفع السلطات إلى الكشف عن هويته لدحض الشائعات المتعلقة بأصوله وخلفيته.
وعلى الرغم من دحض هذه الشائعات، تجمع متظاهرون عنيفون في لندن خارج داونينج ستريت وخاضوا بعض المناوشات البسيطة مع الشرطة في اليوم التالي لأعمال الشغب في ساوثبورت. إلا أنه في الأيام التالية، اندلعت مظاهرات عنيفة لليمين المتطرف في مجموعةٍ من البلدات والمدن الأخرى في جميع أنحاء البلاد، واستهدفت تلك الاحتجاجات العنيفة المسلمين ومجتمعات المهاجرين بشكلٍ رئيسي ووصفها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأنها "بلطجة يمينية متطرفة"؛ فعلى سبيل المثال، استهدف مثيرو الشغب الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء الذين ينتظرون الفصل في طلبات اللجوء الخاصة بهم. وفي روثرهام، اقتحم مثيرو الشغب فندقًا يُستخدم لإيواء طالبي اللجوء وحاولوا إضرام النار فيه وأغلقوا جميع مخارجه بينما كان طالبو اللجوء بداخله، كما أحرق المتظاهرون فندقًا آخر في مدينة تامورث.
ويُعتقد أن بعض الشخصيات البارزة تقف وراء إشعال أعمال الشغب تلك مثل الناشط اليميني المتطرف تومي روبنسون المتهم بالمساعدة في تأجيج أسوأ أعمال شغب تشهدها إنجلترا منذ أكثر من عقدٍ من الزمن. وبينما كان مثيرو الشغب يهتفون باسمه خلال الأسبوع الماضي، كان روبنسون يعلق على الاحتجاجات من خارج البلاد من خلال منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الليلة الثانية لأعمال الشغب، غرد روبنسون على منصة إكس لمتابعيه البالغ عددهم 900 ألف قائلًا "مع انتشار الفوضى... لا تقولوا إنني لم أحذركم". وعلى الجانب الآخر، نأى نايجل فاراج - زعيم "حزب الإصلاح" اليميني الشعبوي المتطرف في بريطانيا - بنفسه عن أعمال الشغب الحالية وأدانها عيانًا بيانًا، لكنه تعرض لانتقاداتٍ لاذعة لنشره "نظريات المؤامرة" حول هوية المهاجم، كما سبق وأن لفت الانتباه إليه من خلال انتقاد الفنادق التي تؤوي المهاجرين والتي باتت الآن مستهدفة من قبل المتظاهرين العنيفين.
لذا، يبدو أن نشطاء اليمين المتطرف الذين فقدوا تأثيرهم على المستوى الانتخابي مؤخرًا يجدون في وسائل التواصل الاجتماعي قناةً بديلة لممارسة بعض التأثير، حيث استخدم المتظاهرون تطبيقي واتساب وتيليجرام لتنظيم التجمعات وتمت مشاركة المنشورات المنظمة للاحتجاجات على الفيسبوك.
في حين يُعتقد أن المعلومات المضللة هي التي أشعلت أعمال الشغب العنيفة التي تستهدف المسلمين والمهاجرين، إلا أن مثيري الشغب كانوا ينتظرون بالفعل الفرصة لاقتحام الشوارع واستهداف المسلمين على وجه التحديد، إذ كشفت الأحداث الجارية أن المسلمين هم الفئة الأكثر ضعفًا في بريطانيا. وتوصلت دراسةٌ نشرتها حكومة المملكة المتحدة في عام 2023 إلى أن المسلمين هم الفئة الأكثر استهدافًا بين المستهدفين بجرائم الكراهية الدينية حيث ارتُكبت 3,400 جريمة ضد المسلمين في المملكة المتحدة بنسبة 41% من جميع جرائم الكراهية الدينية.
ومع ذلك، بالنظر إلى الأرقام التي تشير إلى السلوك البريطاني العام تجاه المهاجرين، يتبين أن الشعب البريطاني متسامح نسبيًا مع المهاجرين من الجنسيات الأخرى. وفي عام 2022، قال 5% فقط من الشعب البريطاني إنهم لا يرغبون في أن يكون لديهم جيران مهاجرين. وبمقارنة الأرقام، يمكن استنتاج أن المهاجرين المسلمين، وليس المهاجرين بشكلٍ عام، هم المجموعة الأكثر استهدافًا من قبل البريطانيين اليمينيين المتطرفين.
وهذا يبرر سبب استمرار مثيري الشغب في سلوكهم العنيف ضد المهاجرين على الرغم من الكشف بالفعل عن أن الشائعات حول ديانة المشتبه به كمسلم كانت مجرد معلومات مضللة. ولا يُعد عدم توافر المعلومات الصحيحة بالضرورة السبب الرئيسي لتكوين الاعتقاد الخاطئ، حيث تلعب مجموعة من العوامل المعرفية والاجتماعية والعاطفية أيضًا دورًا مهمًا في تكوينه. وغالبًا ما تتطور المعتقدات الخاطئة من خلال ذات الآليات التي تُنشئ معتقدات دقيقة، وعند تحديد المعلومات الصحيحة، يميل الناس إلى الثقة في صحة المعلومات والاعتماد على مشاعرهم وحدسهم بدلًا من التأنِ في الحكم عليها. وقد تكون إحدى الوسائل المحتملة للتمييز بين ما يعتقده الناس صحيحًا وما يعتقدونه خاطئًا هي اعتناق وجهات النظر الشخصية لأنه من المرجح عمومًا أن يصدق الناس عناوين الأخبار التي تتوافق مع نظرتهم للعالم.
علاوة على ذلك، قد تستمر المعلومات الخاطئة في التأثير على تفكير الناس حتى بعد تلقي التصحيحات وقبولها فيما يُعرف بـ “انحياز التأثير المستمر”. وهذا الانحياز يفسر السبب وراء استمرار بعض الناس في الاعتقاد بوجود صلةٍ بين اللقاحات ومرض التوحد على الرغم من وجود أدلة قوية تدحض هذه الصلة أو الاعتقاد بأنه عُثِر على أسلحة دمار شامل في العراق في عام 2003 على الرغم من الافتقار إلى الأدلة الداعمة لذلك. ويُعتبر انحياز التأثير المستمر في المقام الأول تأثيرًا معرفيًا، ولكن له أيضًا أسسه الاجتماعية والعاطفية التي يقوم عليها. وبناءً على ذلك، يمكن القول إن مثيري الشغب اختاروا تصديق المعلومات المضللة والاستمرار في تصديقها لمجرد أنها تتماشى مع معتقداتهم السابقة على الرغم من علمهم بأن مرتكب الجريمة لم يكن مسلمًا ولا مهاجرًا.
ختامًا، ما يتعين على حكومة ستارمر أن تفعله ليس بالمهمة السهلة، حيث سيتعين على حزبه الذي يتمتع بإيديولوجية يسار الوسط أن يختار بين احتواء مثيري الشغب من خلال الميل نحو اليمين بطريقة أوروبية بحتة أو التمسك بالميول اليسارية في محاولةٍ منه لصد مشاعر اليمين. ومع ذلك، فإن ما قد يجعل مهمة ستارمر أسهل بكثير هو أن المشاعر المتطرفة ليست منتشرة بالفعل على نطاقٍ واسع داخل المجتمع البريطاني، حيث توصلت دراسة حديثة نشرتها مؤسسة “يوجوف-YouGov” أن 8% فقط من البريطانيين يتعاطفون مع مثيري الشغب، ما يعني أن إنهاء أزمة مثيري الشغب ستكون عملية سهلة ولن تتطلب تقديم تنازلاتٍ لليمين المتطرف.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات