في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل البرلمان ودعا إلى انتخابات مبكرة بعد فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية في فرنسا بفارق يزيد عن 15 بالمائة، ويرى كثيرون أن هذا القرار محفوف بالمخاطر ويمثل دفعة قوية لليمين المتطرف في الانتخابات، خاصةً وأن فرصته في الفوز بأغلبية برلمانية مطلقة تتجاوز فرصة ائتلاف ماكرون، ومع ذلك، فإن قرار ماكرون لا يخلو من بعض التخطيط الاستراتيجي، وعلى أي حال، لا شك في أن مراقبة السياسة الفرنسية خلال السنوات الثلاث المقبلة ستكون مثيرة للاهتمام بما فيه الكفاية سواء نجح الرئيس الفرنسي في تحقيق مآربه أم لا.

هل فقد ماكرون رشده؟

في الواقع، في حين يشير العديد من المعلقين إلى أن خطوة ماكرون لحل البرلمان والدعوة إلى عقد انتخابات مبكرة هي خطوة جريئة للغاية ومحفوفة بالمخاطر وأن نتيجة الانتخابات المبكرة ليست مضمونة على الإطلاق، فهذا لا يمنع أن الرئيس الفرنسي أخذ هذه الخطوة ببعض الحيطة والحذر، ويستخدم ماكرون ذات الإستراتيجية التي استخدمها في انتخابات 2022 عندما هزم لوبان، حيث تعتمد خطته في المقام الأول على عدم حصول اليمين المتطرف على الأغلبية في الانتخابات الوطنية. وعلى عكس الانتخابات الأوروبية، تتطلب الانتخابات البرلمانية الفرنسية حصول المرشح على 50% من الأصوات في الجولة الأولى أو التنافس في جولة الإعادة، مما يجعل من الصعب للغاية على مرشح اليمين المتطرف الفوز بمقعدٍ في البرلمان الوطني. وبما أن سيناريو بروكسل غالبًا ما يُنظر إليه على أنه بعيد المنال، فإن الانتخابات الأوروبية عادةً ما تصبح المكان الذي تبرز فيه الأصوات الاحتجاجية، وفي المقابل، فإن الانتخابات التشريعية بنظامها المكون من جولتين في 30 يونيو و7 يوليو 2024 تعود تاريخيًا بالنفع على الأحزاب التقليدية، حيث يتحد الناخبون من اليسار واليمين عادةً خلف المرشح المتفق عليه من أجل هزيمة اليمين المتطرف.

 

بالإضافة إلى ذلك، لا يخاطر ماكرون بمنصبه في الإليزيه، لكنه يخاطر بالحكم في ظل وجود أغلبية يمينية في البرلمان. وحتى هذه اللحظة، لم تُناقش استقالة ماكرون، بل ذكر أحد مستشاريه أن ماكرون كان ينوي من دعوته إلى عقد انتخابات مبكرة تحقيق الفوز، ونُقل عن ماكرون قوله “أنا الوحيد الذي لا يخاطر بأي شيء”. ومع ذلك، فهو يخاطر بقدرته على الحكم بفعالية لأنه خلال فترة التعايش التي تتولى فيها حكومة منقسمة على نفسها زمام الأمور، يتعين على الرئيس الفرنسي أن يتبنى دورًا أكثر تحفظًا على غرار ما يحدث في الأنظمة البرلمانية. ويتمتع الرئيس الفرنسي بصلاحياتٍ معينة مثل قيادة القوات المسلحة وتولي شؤون السياسة الخارجية والتصديق على المعاهدات الدولية واعتماد السفراء. وفي المقابل، يتولى حزب الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية تسيير السياسات الداخلية، وإذا لم يوافق الرئيس الفرنسي على قانونٍ ما، يمكنه إحالة هذا القانون إلى المجلس الدستوري أو طلب قراءة ثانية من الجمعية الوطنية الفرنسية. لكن في نهاية المطاف، إذا أعلن المجلس الدستوري صحة القانون أو إذا صوت النواب بالموافقة عليه مرة أخرى، فسيتعين على الرئيس التوقيع عليه. وقد تؤدي حالة عدم اليقين السياسي في الوضع الحالي إلى دفع ماكرون إلى الاستفادة بشكلٍ كامل من السلطات التنفيذية التي يمنحها له الدستور الفرنسي، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف دور السلطة التشريعية.

النظام الفرنسي 101

لكي نفهم بشكلٍ كامل ما سيواجهه ماكرون بعد قراره بحل البرلمان، نحتاج إلى توضيح النتائج المحتملة للانتخابات البرلمانية المبكرة المقبلة، حيث سيكون هدف أي حزب فيها هو الحصول على 289 مقعدا على الأقل لتحقيق الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، مما يسمح له بتنفيذ برنامجه دون التفاوض مع الأحزاب الأخرى. وفي حال فاز حزب النهضة الليبرالي الذي يتزعمه إيمانويل ماكرون، فيمكن للرئيس إعادة تعيين جابرييل أتال رئيسًا للوزراء. ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي إلى أن هذا غير مرجح لأن فصيل ماكرون يتخلف عن الائتلاف اليساري فضلًا عن حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان.

 

ويتمثل السيناريو الثاني في أنه إذا حصل حزب ما على أغلبية نسبية وليست مطلقة، فسيجد نفسه بحاجةٍ إلى تشكيل تحالفات لتمرير القوانين مثلما حدث لحزب ماكرون الذي حصل على 230 مقعدا في البرلمان المنحل. والنتيجة المحتملة الثالثة هي عدم فوز أي حزب بالأغلبية وعدم تشكيل ائتلاف حاكم، وهو ما سيؤدي إلى مأزق حكومي ويترك فرنسا في حالةٍ من الركود، وقد يكون الحل الوحيد في هذا السيناريو غير المسبوق هو استقالة الرئيس. والنتيجة الرابعة المحتملة هي التعايش والتأقلم مع الوضع الحالي؛ فإذا حصل حزب آخر مثل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف أو ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري على أغلبية مطلقة، فسيتعين على الرئيس تعيين رئيس وزراء من الائتلاف الفائز.

 

وعلى أي حال، تظهر استطلاعات الرأي أنه لن يحصل أي من الأحزاب المتنافسة في الانتخابات أو أي ائتلاف آخر على الأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة. ومع ذلك، من المحتمل أن تتشكل التحالفات بناءً على نتائج الجولة الأولى نظرًا لطبيعة النظام الانتخابي الفرنسي الذي يتطلب عملية تصويت من جولتين.

 

هل يتعلق الأمر باليمين المتطرف فقط؟

رغم أن الأمر كان يتعلق دائمًا باليمين المتطرف، إلا أن ماكرون انتوى منذ البداية جر جوردان بارديلا – مرشح حزب التجمع الوطني لمنصب رئيس الوزراء – للفشل قبل الانتخابات الرئاسية الحاسمة في عام 2027. لكن في الآونة الأخيرة، بدأ ماكرون في لفت انتباه الرأي العام نحو المخاطر المترتبة على تشكيل حكومة يسارية متطرفة، وحذر يوم الاثنين الموافق ٢٤ يونيو ٢٠٢٤ من أن فوز اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية. ومع ذلك، فإن مخاوف ماكرون بشأن اليمين المتطرف جديدة من نوعها، كما أن قلقه الذي ظهر مؤخرًا بشأن اليسار المتطرف قد يكون بسبب تقدم ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة على ائتلافه وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أُجريت مؤخرًا. وقد كان تشكيل اليسار المتطرف لائتلاف وليد بمثابة عمليةً سريعة ومفاجئة، ولكن لا تزال هناك شكوك جدية حول قدرة هذا الائتلاف على الاستمرار على المدى الطويل لأن الاختلافات بين الأحزاب الأربعة عميقة للغاية وتفوق أهدافها المشتركة، مما يهدد استمرارية الائتلاف.

 

إذن، يظل اليمين المتطرف هو الهاجس الأول والأخير للرئيس الفرنسي القَلِق بطبيعة الحال. وعلى أي حال، كان انتصار حزب التجمع الوطني في الانتخابات الأوروبية هو الذي دفع الرئيس الفرنسي إلى اتخاذ قراره منذ البداية. وعلى الرغم من أن حزب التجمع الوطني لم يكن قريبا من السلطة كما هو الحال اليوم، لكن لماذا أصبح حكم الحزب اليميني المتطرف مثيرًا للقلق؟ وعلى المستوى الأوروبي، على الرغم من أن لوبان خففت من صورتها المتشككة وخطابها المتطرف في أوروبا، فإن حزبها لا زال يتبنى الإتجاه الأكثر تطرفا حيال العديد من القضايا، حيث امتنع حزب التجمع الوطني مرارًا وتكرارًا عن التصويت على المساعدات المقدمة لأوكرانيا وسعى إلى ترك قيادة تحالف الناتو فضلًا عن أنه عارض العديد من التدابير التشريعية المهمة التي اتخذها الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة.

 

وإذا نجح حزب التجمع الوطني في الحصول على أغلبيةٍ مطلقة، رغم أنها ليست نتيجة محتملة للغاية إلا إذا شكل ائتلافا مع حزبٍ آخر، فسيضطر إيمانويل ماكرون إلى تعيين أحد قادته رئيسا للوزراء، وعلى الأرجح سيتولى جوردان بارديلا هذا المنصب. ورغم أن ماكرون ليس ملزما دستوريا بالقيام بذلك، إلا أنه لن يكون لديه أي خيار آخر عملي لأن أي بديل من المرجح أن يؤدي إلى التصويت على حجب الثقة، وبالتالي فهو بحاجة إلى حكومة تحظى بالأغلبية في البرلمان. وفي السابق، اعتمد الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه على الأدوات الدستورية لتجاوز التصويت البرلماني وتمرير حزمة من التشريعات الرئيسية مثل إصلاح نظام التقاعد الذي لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة. وقد يواجه ماكرون، الذي يصارع بالفعل على الحكم دون أغلبية برلمانية، تحديات أكبر خلال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته.

 

ختامًا، لا يخلو قرار ماكرون من الحسابات تماما، وهو يراهن على أن اليمين المتطرف لن يحقق الأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة، ومن شأن هذا السيناريو أن يجبر حزب التجمع الوطني على الحكم ضمن ائتلاف، مما قد يؤدي إلى طريق مسدود في عملية صنع القرار. وإذا أثبت اليمين المتطرف عدم فعاليته، فقد يؤدي إلى تهميش مارين لوبان سياسيا قبل الانتخابات الرئاسية في عام 2027، وعلى أي حال، لن تكون السنوات الثلاث المقبلة سهلة أبدًا بالنسبة لماكرون.

المراجع

Canton, Sergio. “France Faces Political Paralysis: Four Scenarios for the Elections.” euronews, 2024. https://www.euronews.com/my-europe/2024/06/24/how-france-faces-political-paralysis-four-scenarios-for-the-french-elections

 

Canton, Sergio. “French Vote: Is France Headed to a Minority Government?” euronews. Accessed June 2024. https://www.euronews.com/2024/06/25/french-elections-zero-sum-game-is-france-headed-to-a-minority-government

 

Caulcutt, Clea. “French Election: Your Guide to a Vote That Is Set to Shake the EU and NATO.” POLITICO, June 20, 2024. https://www.politico.eu/article/french-election-far-right-national-rally-nato-eu-emmanuel-macron-marine-le-pen/

 

Caulcutt, Clea. “Macron Bets the House on Election to Break Far-Right Momentum in France.” POLITICO, June 11, 2024. https://www.politico.eu/article/eu-european-election-results-2024-emmanuel-macron-snap-election-marine-le-pen-national-rally-jordan-bardella-national-assembly/

 

Chemin, Ariane, and Ivanne Trippenbach. “Comment La Dissolution de l’assemblée Nationale a Fait Son Chemin à l’elysée.” Le Monde.fr, June 10, 2024. https://www.lemonde.fr/politique/article/2024/06/10/comment-la-dissolution-de-l-assemblee-nationale-a-fait-son-chemin-a-l-elysee_6238407_823448.html

 

Goury-Laffont, Victor. “3 Ways Macron’s Election Punt Could Go Wrong.” POLITICO, June 11, 2024. https://www.politico.eu/article/macron-france-election-european-election-far-right/

 

Henley, Jon. “Can France’s New Popular Front Overcome Electoral Threat from Far Right?” The Guardian, June 20, 2024. https://www.theguardian.com/world/article/2024/jun/20/can-new-popular-front-france-overcome-electoral-threat-from-far-right

 

Pateman, Lili, and Romain Geoffroy. “What’s a Cohabitation in French Politics and What Are the Precedents?” Le Monde.fr, June 17, 2024. https://www.lemonde.fr/en/les-decodeurs/article/2024/06/17/what-s-a-cohabitation-in-french-politics-and-what-are-the-precedents_6674967_8.html

 

Radiemeski, lily. “New Left-Wing Coalition in France Polls Better than Centrists, but Long-Term Durability Is Doubtful.” Courthouse News Service, 2024. https://www.courthousenews.com/new-left-wing-coalition-in-france-polls-better-than-centrist-but-long-term-durability-is-doubtful/

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *