كتب بواسطة

تستند الموضوعات والأفكار التي يتناولها هذا التحليل إلى الخطب والجلسات والمناقشات التي عُقدت خلال فعاليات مؤتمر "مراكز الفكر ومجتمعاتها" الذي استضافته مؤسسة "أون ثينك تانكس- On Think Tanks" ومؤسسة "بوفيل- Bofill" في برشلونة، إسبانيا (في الفترة من 21 إلى 23 مايو 2024)، حيث تناول المؤتمر الدور المحوري لمراكز الفكر في ظل المشهد العالمي المعقد والديناميكي، مع التركيز على أهمية التكيف والمشاركة المجتمعية لتحقيق تأثير فعال على السياسات.

نبذة عن مؤتمر "أون ثينك تانكس"

مؤسسة “أون ثينك تانكس” هي شركة استشارات عالمية ومنصة للتغيير تهدف إلى تعزيز التغيير القائم على الأدلة من خلال تمكين المنظمات البحثية والمؤسسات والحكومات وغيرها من الكيانات الأخرى لاتخاذ قرارات مستنيرة بشكل أفضل، وتعد مؤسسة “أون ثينك تانكس” مركزًا عالميًا رائدًا لتوفير المعلومات والدعم والمشاركة المجتمعية لمتخصصي مراكز الفكر.

 

ولم يكن تركيز المؤتمر على موضوع المجتمع مجرد خيار جاء في الوقت المناسب، بل كان خيارًا حاسمًا لأن عملية إنشاء أحد مراكز الفكر غالبًا ما تنطوي على أفكارٍ داخلية وتحدد أهداف المركز وخطته الإستراتيجية، لذا سلط المؤتمر الضوء على أهمية أخذ خطوة للوراء والنظر إلى الصورة الأكبر، ومن خلال التركيز على المجتمعات التي تخدمها، يمكن لمراكز الفكر الناشئة أن تنفتح على نطاق أوسع من الإمكانيات والموارد المحتملة مع الأخذ في الاعتبار أن هذا المنظور الأوسع لا يحل محل التخطيط الداخلي، بل يعززه ويوطده، كما تستطيع مراكز الفكر الجديدة ضمان بقاء أبحاثها وأعمالها موضوعية ومؤثرة من خلال مواءمة أهدافها وغاياتها مع اتجاهات المجتمع واحتياجاته.

 

بناء أسس قوية

 

رغم أن المشهد السياسي والخطاب العام سريع التغير يفرض عقبات جديدة، إلا أنه يوفر أيضًا فرصة فريدة لقيام مراكز فكر جديدة. وعلى عكس المراكز القائمة بالفعل، فإن لدى هذه المراكز الجديدة الفرصة لبناء أنفسها من الألف إلى الياء مع أخذ هذا الواقع الجديد في الاعتبار. وتمثل موضوعات تغير المناخ وانتشار الأوبئة والتوترات الجيوسياسية وعدم المساواة الاقتصادية والمعلومات المضللة بالإضافة إلى الاضطرابات التكنولوجية تحديات عالمية معقدة ومترابطة بشكل متزايد وتتطلب أساليب أكثر تعاونية ومبتكرة لحل المشكلات. وهناك اعتراف متزايد بأنه لا يمكن لأي كيان أن يعالج هذه المشكلات بمفرده، لذا ثمة حاجة إلى اتباع نهج متعدد التخصصات ويشارك فيه مختلف أصحاب المصلحة. وفي هذا السياق، يمكن لمراكز الفكر الجديدة أن تنصب نفسها ككيانات مرنة ومبتكرة وتعاونية ومستعدة لإحداث تأثير كبير.

 

تتمثل إحدى أهم عناصر المنظمة المرنة في مرونة هيكلها التنظيمي على نحو يسمح بالتكيف سريعا للاستجابة للقضايا والفرص الناشئة، ويتطلب الحفاظ على هذه المرونة تنمية ثقافة التعلم والتطوير المستمر بما يسهم في خلق فرص لبناء الشراكات. ومن خلال مراعاة هذا الأمر، تستطيع مراكز الفكر الجديدة أن تظل في الطليعة، مما يضمن أن تظل أبحاثها وتوصياتها موضوعية ومؤثرة. كما تُبنى الأسس القوية من خلال تحديد الأهداف بوضوح والتي يمكن – بل وينبغي – تكييفها مع مرور الوقت، ولكنها يجب أن تكون موجودة منذ البداية، وبالنسبة لمراكز الفكر الجديدة والقائمة على حدٍّ سواء، هناك إجماع على أن الأهداف المحددة والمستهدفة هي التي تعود بالتأثير الأكبر، ويمكن للتدخلات صغيرة النطاق والمصممة لتلبية احتياجات أو مشاكل معينة أن تسفر في كثيرٍ من الأحيان عن نتائج مهمة، كما يمكن أن يكون للجهود المتواضعة والموجهة بشكل جيد تأثير عميق على نتائج السياسات.

 

من المهم أيضًا لمراكز الفكر أن تظل مهتمة بأعمال غيرها من المراكز في المجتمع بهدف تحديد الثغرات التي تشتد الحاجة إلى العمل فيها بشكلٍ فعال لأن مراكز الفكر لا تعمل في صوامع. ومن ثم، فإن مواكبة الاتجاهات السائدة في هذا القطاع والتعامل معها لا تقل أهمية عن مواكبة الاتجاهات والقضايا العالمية.

 

الشراكات المجتمعية

 

لا تضمن الشراكات المجتمعية اكتساب قوة شعبية وبناء المصداقية فحسب، بل هي تمثل عصب السياسات القائمة على الأدلة. وتتعلق إحدى الأفكار البارزة في هذه الورقة بالطريقة التي يحدث بها التعاون بين أطراف المجتمع. وغالبًا ما يطغى التصور بأن الحوار والتعاون هما هدفان إيجابيان ومطلوبان بشكلٍ موضوعي على حقيقة أن العملية قد يصعب البدء فيها في كثيرٍ من الأحيان لأنه ليس من المسلم به أن الشركاء الذين يرغبون في التعاون سيولدون تلقائيًا زخمًا عفويًا، بل يجب تهيئة الظروف لحدوث هذا الزخم. ومن خلال تصميم هذه العملية واختبارها، يمكن لمراكز الفكر بدء التعاون من وجهة نظر أكثر تحفيزًا وتركيزًا.

 

بناء الثقة والالتزام بالنزاهة

 

في عصر المعلومات المضللة والخطاب العام المستقطب، أصبح حياد مراكز الفكر وموثوقيتها أكثر أهمية من أي وقتٍ مضى. ومن أجل بناء هذه الثقة، يتعين على مراكز الفكر أن تعطي الأولوية للشفافية وأخلاقيات البحث العلمي والمشاركة المجتمعية النشطة، لذا لا بد من إبقاء قنوات اتصال مفتوحة مع أصحاب المصلحة لبناء الثقة. كما يمكن لمراكز الفكر الجديدة أن تثبت التزامها بخدمة المصالح العامة من خلال تقبل ردود الفعل ومعالجة المخاوف بسرعةٍ فور نشوئها.

 

بالإضافة إلى ذلك، يتطلب بقاء صدى الأفكار والمشروعات العالمية داخل المجتمعات المحلية حدوث تبادل ثنائي الاتجاه. وهذا لا يعني نشر الأبحاث والتوصيات فحسب، بل يعني أيضًا الإنصات بنشاط إلى وجهات النظر والاحتياجات المحلية ودمجها في خطط العمل. ومن خلال تعزيز هذا الحوار المتبادل، يمكن لمراكز الفكر مواءمة أعمالها بشكلٍ أفضل مع المجتمعات التي تخدمها، مما يعزز صلتها بمجتمعاتها وزيادة ثقة مجتمعاتها فيها. ومن خلال القيام بذلك، تثبت هذه المراكز نفسها كمساهمين يمكن الوثوق بهم ولا غنى عنهم في السياسة العامة والنقاشات المستنيرة.

 

الاتصالات والتكنولوجيا والمستقبل

 

أدى التقدم التكنولوجي إلى حدوث تحول كبير في كيفية الوصول إلى المعلومات واستغلالها، مما يوفر فرصًا وتحديات جديدة لمراكز الفكر والرأي. وفي حين تظل التقارير البحثية الشاملة وملخصات السياسات حيوية لتوفير تحليلات متعمقة ورؤى قائمة على الأدلة، فإن هناك شهية متزايدة بين صناع السياسات ووسائل الإعلام والجمهور للحصول على معلومات موجزة يسهل الوصول إليها ويمكن فهمها ومشاركتها بسرعة، وهو ما يخلق معضلة مشتركة لكل من مراكز الفكر الجديدة والقائمة على حد سواء. ومع ذلك، فإن العصر الرقمي قد وصل بالفعل ومن المزمع أن يصبح أكثر ترسيخًا في أنظمتنا، لذا فإن الانفتاح على استكشاف طرق جديدة للاستفادة منه سيقطع بلا شك شوطًا طويلًا. ويمكن أن يؤدي تكييف تنسيقات المحتوى لتلبية تفضيلات مختلف أصحاب المصلحة إلى تعزيز الوصول إلى المعلومات ذات الصلة، مما يعظم التأثير في تشكيل الخطاب العام وأجندات السياسات.

 

تحويل الرؤى إلى خطوات عمل

 

  • ينبغي احتضان المرونة من خلال التكيف بسرعةٍ مع المشهد دائم التغير من خلال تعزيز ثقافة سرعة الحركة والاستجابة داخل المؤسسة.

 

  • لا بد من تعزيز المشاركة المجتمعية من خلال بناء الثقة والملاءمة عن طريق الإنصات بنشاطٍ إلى المجتمعات المحلية والتفاعل معها وضمان تلبية البحوث لاحتياجات العالم الحقيقي.

 

  • يلزم الابتكار في مجال الاتصالات من خلال استغلال المنصات الرقمية والتقنيات المبتكرة لتوصيل نتائج البحوث في أشكالٍ جذابة وفعالة ويسهل الوصول إليها.

 

  • يتعين ضمان الشفافية والنزاهة من خلال إعطاء الأولوية لأخلاقيات البحث العلمي والحفاظ على الشفافية في مصادر التمويل والمنهجيات لتعزيز المصداقية.

 

  • يلزم الاستفادة من التطورات في الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات لاستخلاص رؤى أعمق وتعزيز تأثير مخرجات الأبحاث.

 

  • يجب التعاون مع مختلف أصحاب المصلحة بما في ذلك صناع السياسات والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني لتضخيم التأثير وصنع سياسات قائمة على الأدلة.

 

  • يجب مراقبة الاتجاهات القطاعية والعالمية باستمرار لتوقع التحديات والفرص المستقبلية واستباق أجندات البحث.

 

  • ينبغي نقل صورة عن المؤسسة بوصفها أحد قادة الفكر من خلال نشر المحتوى المثير للتفكير وعقد المناقشات المنسقة بعناية وتقديم المساهمات في الخطاب العام.

 

  • وأخيرًا، ينبغي الالتزام بالتعلم المستمر من خلال تعزيز ثقافة التعلم والتطوير لتزويد فريق العمل بالمهارات اللازمة للتعامل مع التعقيدات المتطورة في أبحاث السياسات.

 

استشراف المستقبل

 

يفرض المشهد العالمي المعقد والديناميكي اليوم على مراكز الفكر أن تتبنى المبادئ الأساسية المتمثلة في المرونة والابتكار والتركيز القوي على المشاركة المجتمعية. وهذه العناصر ليست مجرد كلمات طنانة، ولكنها إستراتيجيات أساسية تقود إلى التغيير المؤثر والموضوعية في أبحاث السياسات. وتُعتبر هذه المبادئ ضرورية للتكيف السريع مع التحديات والفرص الناشئة وضمان تقديم بحوث فعالة في الوقت المناسب مع توسيع نطاق الوصول من خلال الابتكار في استخدام الوسائل التكنولوجية. كما أن المشاركة مع المجتمعات المحلية تعزز الثقة والملاءمة، وهو ما يضمن أن تلبي مخرجات البحث احتياجات واهتمامات العالم الحقيقي وتعزز وضع سياسات شاملة تعكس مختلف وجهات النظر. ومن خلال الالتزام بهذه المبادئ، لا تتمكن مراكز الفكر من التغلب على التحديات الناشئة فحسب، بل تقود أيضًا عملية صياغة سياسات مستنيرة ودفع التغيير المجتمعي الإيجابي على مستوى العالم. ومع تطور هذا المشهد، ستظل هذه الإستراتيجيات أساسية لضمان استمرار تأثير مؤسسات الفكر وأهميتها في أبحاث السياسات وصياغتها.

To learn more about On Think Tanks, head to their website: www.onthinktanks.org 

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *