لطالما كان البحر الأسود بؤرة للتوتر منذ القرن السادس عشر. وعلى عكس حروب العصبة المقدسة، التي واجهت فيها الإمبراطورية العثمانية خسارة إقليمية لأول مرة، تشير الاتجاهات الحالية إلى وجود مكاسب تركية في المنطقة. لقد أعادت حرب أوكرانيا العمل باتفاقية مونترو، التي تمنح أنقرة اليد العليا في البحر الأسود وتجعل أعضاء الناتو الآخرين يقدرون الدور التركي الذي لا غنى عنه. تموج منطقة البحر الأسود مؤخرًا بالعديد من التطورات المتسارعة، بدءًا من تضاؤل القوة الروسية إلى تصاعد المخاوف الغربية، والتي تُقدم لأنقرة فرصًا ذهبية لتحقيق مكاسب على عدة أصعدة.
على مر التاريخ، لطالما أكدت تركيا أهميتها في منطقة البحر الأسود، تلك المنطقة التي تتسم بموقع جيواستراتيجي حيوي على الخريطة السياسية العالمية. وتؤكد على هذه الأهمية اتفاقية مونترو الموقعة عام 1936، والتي تنظم حركة السفن الحربية عبر المضائق التركية، بما في ذلك مضيقي البوسفور والدردنيل. وتمنح اتفاقية مونترو الدولية تركيا وضعًا فريدًا من حيث السيطرة على حركة مرور السفن في البحر الأسود. فأحد الأحكام المهمة في الاتفاقية هو تقييد وصول السفن الحربية للدول غير المطلة على البحر الأسود، مما يقيد بشكل فعال نشر الأساطيل البحرية الكبيرة، مثل تلك القادمة من روسيا، هناك. وبالتالي، فإن تركيا، باعتبارها الراعي للمضائق التركية، تمتلك السلطة التنظيمية لفرض وإنفاذ هذه القيود.
ولا يقتصر دور اتفاقية مونترو على حماية المصالح الاستراتيجية التركية فحسب، بل يعمل أيضًا على ضمان مستوى معينًا من الاستقرار وتوازن القوى في منطقة البحر الأسود. فبفضل هذه الاتفاقية، عززت تركيا موقفها ووجودها في المنطقة، لتصبح لاعبًا محوريًا في تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية لهذه المنطقة البحرية المتميزة. وبالنسبة لأنقرة، يحمل البحر الأسود أهمية بالغة لعدة أسباب، أبرزها دوره المحوري في الترابط الإقليمي، والذي يشمل عناصر مهمة مثل خطوط أنابيب الطاقة. علاوةً على ذلك، بات البحر الأسود مؤخرًا نقطة محورية لجهود استخراج الغاز الطبيعي في تركيا.
وفي ضوء كل ما سبق، تواجه البحرية الأمريكية قيودًا على الدخول الحر إلى البحر الأسود، ما يجعله المسطح المائي الدولي الوحيد خارج نطاق وصولها المباشر. ونتيجة لذلك، تعتمد الولايات المتحدة على حلفائها وشركائها في البحر الأسود لحماية مصالحها ومصالحهم على حدٍ سواء. ونظرًا لهذا الواقع الجيوسياسي، يصبح مساعدة الحلفاء الإقليميين أمرًا لا غنى عنه. وفي ظل هذه التحديات، تبرز تركيا كفاعل فريد قادر على الاضطلاع بدور محوري. فبالنسبة لصانعي السياسة في (حلف شمال الأطلنطي) الناتو، كان تدخل روسيا في أوكرانيا بمثابة تذكير بأهمية الدور التركي في منطقة البحر الأسود، ويعود ذلك إلى ثلاثة عوامل رئيسية. أولًا: يكتسب الناتو ميزة هائلة من خلال سيطرة أحد أعضائه على المضائق التركية، وهو عامل يؤثر بشكل مباشر على تحركات روسيا في صراع أوكرانيا. علاوة على ذلك، لا يُسمح قانونًا لسفن أساطيل روسيا الأخرى في المحيط الهادئ أو البلطيق أو الشمال بدخول البحر الأسود، مما يحد من قدرة روسيا على توسيع نفوذها وزيادة قوتها البحرية في المنطقة.
وشهدت الفترة الأخيرة بعض التطورات التي عززت من أهمية أنقرة في منطقة البحر الأسود، إذ حققت القوات الأوكرانية نجاحات ملحوظة في صد الأسطول الروسي في البحر الأسود، ما أجبر الأسطول على تغيير تكتيكاته إلى موقف دفاعي والانسحاب باتجاه الشرق. وتُشكل إعادة فتح أوكرانيا لطريق الشحن على طول الساحل الغربي للبحر الأسود، والذي يمر عبر إسطنبول لتصدير الحبوب، تحديًا إضافيًا لروسيا، خاصة وأنها كانت تسعى لمنع ذلك. لقد أثبت هذا فعاليته الكبيرة، حيث تجاوزت صادرات الحبوب عبره مستويات لم تشهدها المنطقة منذ الغزو الروسي. بل وأكثر من ذلك، نجح هذا الطريق في تعويض الخسائر الأوكرانية الناتجة عن انهيار اتفاقية الحبوب السابقة. كما ينعكس عجز روسيا عن وقف هذه التطورات في البحر الأسود على فقدان البحرية الروسية سيطرتها المهيمنة في المنطقة. وعلى الرغم من احتفاظ روسيا بحضور بحري كبير، تواجه موسكو تحديًا مزدوجًا بسبب تراجع مسارها في السيطرة على البحر الأسود. فمع استمرار الصراع ومواصلة أوكرانيا لهجومها البحري في البحر الأسود، من المتوقع أن تتلاشى قوة روسيا البحرية في نهاية المطاف. ونتيجة لذلك، سيتغير ميزان القوى في المجال البحري الإقليمي لصالح تركيا، التي تراقب عن كثب تطور هذه الأحداث. غير أن هذا التوقع يرسم سيناريو محفوفًا بالمخاطر بالنسبة لروسيا، بينما تراه تركيا وحلفاؤها، ولا سيما الولايات المتحدة، فرصة مواتية. وترى تركيا في ذلك ميزة استراتيجية للحفاظ على هيمنتها في البحر الأسود. ولذا، فإن تركيا هي المستفيد الحقيقي من التطورات في منطقة البحر الأسود. إذ يؤدي التراجع التدريجي للقوة البحرية الروسية إلى تعزيز مكانة تركيا كقوة بحرية بارزة في المنطقة، ويبرز دورها المهم كحليف لا غنى عنه بالنسبة للدول الغربية. ويحدث هذا التطور دون تدخل من قبل جهات خارجية لا تطل على البحر الأسود مثل الولايات المتحدة، حيث تظل سفنها غير قادرة على دخول البحر الأسود، وهو ما يساعد على تجنب تصعيد محتمل للنزاع.
توصلت تركيا وبلغاريا ورومانيا إلى اتفاقية ثلاثية لمعالجة قضية الألغام البحرية المتناثرة في البحر الأسود. ولا تقتصر أهمية هذه الاتفاقية على الجانب الأمني البحري وسط الصراع الجاري في أوكرانيا، بل تؤثر أيضًا على علاقات أنقرة بشركائها في الناتو، حيث تؤكد على السيادة التركية على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذان يربطان البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط.
وفي الوقت الحالي، هناك تفسيرات متباينة لاتفاقية “مجموعة التدابير البحرية لمكافحة الألغام في البحر الأسود” (MCM Black Sea). إذ تؤكد تركيا أن المهمة ستظل مبادرة ثلاثية الأطراف، وتستبعد حلفاء الناتو غير المطلين على ساحل البحر الأسود. بالمقابل، يختلف إعلان وزارة الدفاع الرومانية عن هذا التفسير، حيث يشير إلى أن مذكرة التفاهم تسمح للدول الحليفة والشريكة الأخرى بالمساهمة في المبادرة. وقد يفرض تباين التفسيرات حول اتفاقية مكافحة الألغام البحرية بالبحر الأسود تحدياتٍ على أهداف تركيا الأوسع، ولا سيما هدفها المتمثل في الحفاظ على هيمنتها في المنطقة وتجنب استفزاز روسيا. ومع ذلك، فإن المبادرة تسلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو. فبلا شك، ومن دون التعاون التركي، ستُترك كل من بلغاريا ورومانيا، باعتبارهما الدولتين المطلتين الوحيدتين، وحيدتين في مواجهة أي عدوان روسي محتمل في البحر الأسود. ويؤكد عجز الولايات المتحدة عن التدخل المباشر لصالح بعض الجهات الفاعلة في المنطقة على الدور المحوري الذي تلعبه تركيا، ويجعلها شريكًا لا غنى عنه لمصالح الولايات المتحدة وحلف الناتو في هذه المنطقة الحيوية. بعبارة أخرى، لا يمكن للولايات المتحدة ولا شركائها في الناتو التضحية بالعلاقة الإستراتيجية مع تركيا في منطقة بالغة الأهمية.
ولا يقتصر الأمر على المسائل الأمنية فحسب، بل يمتد إلى ساحة الدبلوماسية أيضًا، إذ تمتلك تركيا قدرةً فريدةً على التوسط بين روسيا والغرب. ولعل اتفاقية تصدير الحبوب خير مثال على دور تركيا وأهميتها البالغة للمنطقة بل وللغرب وحلفائه. ويبرز الدور المحوري لتركيا جليًا مع تردد أصداء التحديات الناشئة عن الحرب في أوكرانيا في مختلف العواصم الأوروبية. ومن المقرر أن يقوم بوتين بزيارة إلى تركيا قريبًا للتفاوض حول آلية جديدة لتسهيل صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود. وقد يساهم إحياء اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية في توفير قدر من الاستقرار وسط التحديات الراهنة، لا سيما أنه من المحتمل أن يؤدي إلى خفض حدة التوترات بين أوكرانيا والمجتمع الأوروبي الأوسع. إذ يواجه بعض المزارعين الأوروبيين حاليًا تبعات سلبية جراء الارتفاع المفاجئ في واردات الحبوب الأوكرانية التي تُغرق الأسواق المحلية وتؤثر سلبًا على أعمالهم. ويمكن لاتفاقية محددة أن تنظم صادرات الحبوب الأوكرانية وتضمن مصالح المزارعين المحليين. وقد أدى تدفق واردات الحبوب الأوكرانية الرخيصة إلى توتر العلاقات بين أوكرانيا وبولندا، الحليف الرئيسي لها. وتؤكد الاحتجاجات الأخيرة التي نظمها المزارعون البولنديون، الذين أغلقوا المعابر الحدودية للتعبير عن معارضتهم لقواعد الاتحاد الأوروبي المخففة بشأن الواردات الأوكرانية، خطورة الموقف. ويفكر بعض قيادات القطاع الزراعي في فرض حصار أكثر شمولًا على الحدود الأوكرانية، مصحوبًا بإضراب عام. ويؤكد هذا الوضع الأهمية المتزايدة لأنقرة، حيث بدأت العواصم الأوروبية تشعر بتداعيات القضية، على أمل أن يقنع أردوغان بوتين بالموافقة على صفقة الحبوب الجديدة.
في الختام، يبدو أن تركيا تستغل حالة عدم الاستقرار في البحر الأسود لصالحها. ومن خلال ترسيخ وجودها في المنطقة والحفاظ على دورها التقليدي كحارس للبحر، تستفيد تركيا أيضًا من اعتماد الولايات المتحدة المتزايد والحلفاء الغربيين الآخرين على أنقرة في مسائل مختلفة، بما في ذلك المفاوضات مع موسكو بشأن إحياء صفقة الحبوب.
Bechev, Dimitar. “Closer Ties to the West Don’t Mean Turkey Will Give up on Russia …” Carneigie Endowment , February 7, 2024. https://carnegieendowment.org/politika/91571
Coffey, Luke. “Why Türkiye Is Indispensable for NATO in the Black Sea Region and Beyond.” TRT World – Breaking News, Live Coverage, Opinions and Videos, January 20, 2023. https://www.trtworld.com/opinion/why-turkiye-is-indispensable-for-nato-in-the-black-sea-region-and-beyond-12778023
COŞKUN, ALPER. “Balance of Power in the Black Sea Shifts to Turkey.” GIS Reports, February 14, 2024. https://www.gisreportsonline.com/r/turkey-black-sea/
Dhojnacki. “To Fend off Russia in the Black Sea, the US and NATO Need to Help Boost Allies’ Naval Power.” Atlantic Council, January 10, 2024. https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/to-fend-off-russia-in-the-black-sea-the-us-and-nato-need-to-help-boost-allies-naval-power/
Echols, Connor, Brandan P. Buck, Elias Khoury, Daniel Larison, Yuval Abraham, Jim LobeBlaise Malley, Jim Lobe, et al. “Diplomacy Watch: Putin Heads to Turkey for New Grain Deal Talks.” Responsible Statecraft, February 9, 2024. https://responsiblestatecraft.org/black-sea-grain-deal/
Kayaoglu, Barin. “New Black Sea Mission Could Score Turkey Points with NATO.” Al-Monitor, January 13, 2024. https://www.al-monitor.com/originals/2024/01/new-black-sea-mission-could-score-turkey-points-nato
Kucukgocmen, Ali, and Huseyin Hayatsever. “Turkey, Romania, Bulgaria Sign Deal to Clear Floating Black Sea Mines.” Reuters, January 11, 2024. https://www.reuters.com/world/turkey-romania-bulgaria-ink-deal-clear-floating-black-sea-mines-2024-01-11
Mikovic, Nikola. “Turkey Eyes Balkan Influence amid Serbia-Kosovo Tensions.” Asia Times, June 20, 2023. https://asiatimes.com/2023/06/turkey-eyes-balkan-influence-amid-serbia-kosovo-tensions/
تعليقات