تٌمثل الدعوي المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية جهدًا إيجابيًا ومبادرة جديرة بالملاحظة لإعادة إحياء النظام الاجتماعي العالمي، لكن الفشل في تحقيق عدالة حقيقية في هذا السياق قد يعزز حالة الفوضى الدولية الراهنة ويقوي الجهات الفاعلة المارقة الأخرى.
مَثٌلَت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتاريخ 11 يناير 2024، وذلك في الجلسة الأولى المعروفة عالميًا بمحاكمة القرن، وتشمل لائحة الاتهام الموجهة إلى إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ما قد يؤدي إلى فرض إجراءات مؤقتة من قبل المحكمة تلزمها بوقف جميع الأفعال التي تندرج تحت المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ووقف عملياتها العسكرية في قطاع غزة. كما قد تواجه دولة إسرائيل، التي تأسست في عام 1948 وهو نفس العام الذي تم فيه اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، اتهامات بانتهاك الاتفاقية الموقعة عليها.
على الرغم من سجل إسرائيل الحافل بانتهاكات القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن التزام إسرائيل كدولة موقعة على هذه الاتفاقية يفرض عليها المشاركة في الدعوى القضائية الجارية. كما أن تجاهلها قد يؤدي إلى إصدار حكم غيابي ضدها وتفويت فرصة حشد الدعم من الدول الأخرى أمام المحكمة. ومن خلال المشاركة، تتاح لإسرائيل فرصة دعم موقفها، والتأكيد على عدم وجود إجماع عالمي على مزاعم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية
تُشكل الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل بتلك الاتهامات الخطيرة خطوة هامة وغير مسبوقة. ويعد هذا الأمر الأول من نوعه، حيث تأتي الاتهامات من دولة تحظى بإرث دولي معترف به في مجال مكافحة الفصل العنصري، كما تُعد هذه الدعوى بمثابة رد طال انتظاره على الظروف التي فرضتها إسرائيل على غزة منذ أحداث 7 أكتوبر، وتسلط الضوء على ضرورة اللجوء إلى النضال القانوني لمنع المزيد من فقدان الأرواح والدمار. لذلك، انتقى كل طرف في القضية ممثليه بعناية فائقة.
يتزعم الفريق القانوني لجنوب أفريقيا المحامي جون دوغارد، وهو أحد أبرز خبراء القانون الدولي في جنوب أفريقيا. وقد شغل منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية وسبق له أن عمل قاضيًا في محكمة العدل الدولية. في الوقت نفسه، اختارت إسرائيل رئيس المحكمة العليا السابق، أهارون باراك، للانضمام إلى الفريق القانوني الإسرائيلي وتولي رئاسته.
أولاً، في حال صدور قرار المحكمة لصالح جنوب أفريقيا وقبول التدابير المؤقتة المطلوبة، من المتوقع أن تمتثل إسرائيل للقرار، نظرًا لكونها طرفًا في الاتفاقية، ويعتبر توقيعها على تلك الاتفاقية بمثابة قبول لاختصاص المحكمة. ويُظهر التعاون الحالي من جانب إسرائيل مع المحكمة رغبتها في استعادة صورتها العامة في المقام الأول، خاصة في أعين الرأي العام الغربي، كما يُشير إلى إمكانية تبنيها استراتيجية طويلة الأمد. تتعرض إسرائيل بالفعل لضغوط من أجل تفعيل وقف إطلاق النار، وتلقت إشارات من الولايات المتحدة بضرورة إنهاء حملتها البرية الواسعة النطاق. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تتوقف تمامًا عن عملياتها، إلا أن تقليص حجم العمليات نتيجة للتدابير المؤقتة قد يكون في صالح إعادة بناء صورتها الدولية. ولأن الحرب ألحقت خسائر فادحة بالاقتصاد الإسرائيلي، لذا فإن تقليص العمليات يعد خيارًا ذكيًا، ويمكن لإسرائيل تحديد توقيته بما يخدم مصالحها.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يتوجب بالضرورة على المحكمة أن تصدر حكمًا نهائيًا يُعلن إدانة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية لقبول طلب التدابير المؤقتة، ومن المتوقع أيضًا أن يستغرق إصدار الحكم عدة سنوات.
وفي حال رفضت إسرائيل تنفيذ حكم المحكمة الدولية، يُمكن لأي دولة الاعتماد على الحكم ورفع الأمر إلى مجلس الأمن للبحث في كيفية تنفيذ قرار محكمة العدل الدولية. وفي حال استخدمت أي دولة عضو حق النقض ضد قرار صادر عن هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، فإنها ستواجه حتمًا عواقب سياسية وقانونية وأخلاقية داخل المجتمع الدولي.
ثانيًا، إذا صدر قرار المحكمة لصالح إسرائيل، ستكون هناك حاجة ضرورية للرجوع إلى الحل السياسي والدبلوماسي مرة أخرى كوسيلة لتسوية النزاع، ويُتوقع أن تعتمد إسرائيل على حجة الدفاع عن النفس لتفنيد الاتهامات الموجهة ضدها وتقديم الأدلة التي تُثبت أنها لا تستهدف المدنيين بشكل عشوائي، بل تستهدف مقاتلي حركة حماس فقط.
ومع ذلك، سيكون من الصعب تفنيد مجموعة كبيرة من الأدلة الجوهرية التي قدمتها جنوب أفريقيا لدعم مزاعم نية الإبادة الجماعية، والتي تظهر بوضوح في التصريحات المتعددة التي أدلى بها المسؤولون السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، بما في ذلك رئيس الوزراء نتنياهو، والرئيس هرتسوغ، ووزير الدفاع يوآف غالانت. وبالنظر إلى هذه الأدلة الدامغة، يمكن لقضية إسرائيل في المحكمة الدولية أن تتحول إلى قضايا فردية أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو مسار بدأه بالفعل المحامون التشيليون الذين اتهموا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بارتكاب جرائم حرب.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات