خلال المراحل الأولى من تفشي فيروس كورونا في عام 2019، صدمت الصين المجتمع الدولي حينما فرضت إجراءات احترازية تمنع بموجبها نحو 11 مليون شخص في مدينة ووهان من الخروج من منازلهم، ومنذ ذلك الحين، تمسكت الصين باتباع ذات الممارسات وتبنت سياسة "صفر كوفيد"، ما جعلها تتراجع اقتصاديًا بسبب عمليات الإغلاق الناجمة الفيروس والقيود المفروضة على الحدود، وهو ما ترتب عليه في النهاية تعطيل سلاسل الإمداد وإعاقة تدفق التجارة والاستثمار إلى البلاد، وقد التزمت الصين بسياسة "عدم التسامح" لمنع تفشي فيروس كورونا لما يقرب من ثلاث سنوات على الرغم من أن هذه السياسة تسببت في حدوث أضرار اقتصادية هائلة وتسببت في حالة من الاستياء لدى جموع الشعب الصيني، لذا، من المهم إلقاء الضوء على آثار سياسة "صفر كوفيد" على الاقتصاد الصيني والتدابير التي ينبغي على الحكومة الصينية أن تتخذها بعد تخليها عن هذه السياسة من أجل إنعاش اقتصادها.
تشير سياسة “صفر كوفيد” إلى إستراتيجية الحكومة الصينية لفرض إغلاق شامل على مجتمعات بأكملها، وحتى على مدن بأكملها عند اكتشاف الفيروس بهدف منع انتقاله وبالتالي تقليل عدد حالات الإصابة والوفيات. وعلى النقيض من هذه السياسة، تتبع أغلب دول العالم إستراتيجية “التعايش مع الفيروس” التي تنطوي على عزل المصابين ومتابعة المخالطين لهم وفحصهم مع عدم إغلاق المدن على الفور لمجرد اكتشاف مجموعة من الحالات المصابة بالمرض. ولتطبيق هذه السياسية، أجرت الحكومة الصينية اختبارات طبية على نطاقٍ واسع وعزلت المرضى في المنشآت الحكومية وفرضت عمليات إغلاق شملت مدنًا بأكملها حتى لو كانت الحالات المكتشفة قليلة، كما تستخدم السلطات الصينية تطبيقات على الهواتف الجوالة لرصد تحركات السكان وتتبع انتشار الفيروس وتجري اختبارات جماعية في المناطق التي تم الإبلاغ عن وجود حالات إصابة بها، فضلًا عن أنها تضع أي شخص كان على اتصالٍ بشخص آخر مصاب في مرافق الحجر الصحي الحكومية أو تلزمه بعزل نفسه.
وقد أدت سياسة “صفر كوفيد” الصينية المتمثلة في تطبيق عمليات الإغلاق المفاجئة وعدم الاستقرار السياسي وفرض القيود غير المنتظمة على السفر على مدار ما يقرب من ثلاث سنوات إلى انهيار السكان نفسيًا وماليًا بسبب الآثار المتفاوتة على اقتصاد البلاد جراء تطبيق هذه السياسة.
تأثير سياسة “صفر كوفيد” على الاقتصاد الصيني
لم يكن تأثير سياسة “صفر كوفيد” متساويًا على جميع الصناعات، حيث جاءت الفنادق والمطاعم والعقارات والسياحة وسلاسل التوريد المحلية والشركات الصغيرة والمتوسطة على رأس قائمة القطاعات الأكثر تأثرًا بعمليات الإغلاق المحلية. وفي الواقع، أدت عمليات الإغلاق المتكررة، لا سيما في شرق وجنوب شرق الصين “موطن الصناعة والتجارة الصينية”، إلى زعزعة استقرار المصانع والشركات وزيادة التحديات أمام أصحاب العمل وانخفاض الإنتاج وإغلاق المصانع بالإضافة إلى انخفاض الاستثمارات طويلة الأجل.
كما تراجع النشاط الصناعي في الصين في شهر ديسمبر، كما انخفض مؤشر كايشين (Caixin) لمديري المشتريات التصنيعي الصيني، وهو مؤشر خاص لقياس ظروف التشغيل في القطاع الصناعي في الصين، إلى 49 (وتشير القراءة دون الـ 50 إلى حدوث انكماش اقتصادي)، وهو أدنى مستوى له منذ سبتمبر 2022 وأدنى من قراءة نوفمبر 2022 التي بلغت 49.4. كما أشارت الأرقام الرسمية لمؤشر مديري المشتريات PMI في الصين والتي صدرت في الأسبوع الأخير من ديسمبر إلى المزيد من الانخفاض في النشاط الاقتصادي، حيث سجل مؤشر التصنيع 47 ومؤشر الخدمات 41.6، وهي أدنى مستوياتهما منذ انتشار جائحة كوفيد-19 في أوائل عام 2020.
كذلك تسببت عمليات الإغلاق في الصين والقيود المفروضة على السفر في حدوث أضرار بالغة لسلاسل الإمداد المحلية، وكان لذلك أثر كبير على كل من مرافق الإنتاج والاستهلاك المحلي والصادرات حتى أن السياحة المحلية لم تسلم من تلك الأضرار. جدير بالذكر أن الصين لعبت دورًا رئيسيًا في سلاسل التوريد العالمية على مدار عقودٍ من الزمن وأنتجت ما يقرب من 30٪ من إجمالي السلع التي يتم استخدامها على مستوى العالم في عام 2021. ولكن تراجعت الصادرات الصينية في أكتوبر 2022 لأول مرة منذ مايو 2020، ويرجع ذلك جزئيًا إلى انخفاض الطلب العالمي، فضلًا عن انكماش نشاط التصنيع في الصين خلال الشهرين الماضيين في ظل إغلاق قطاعات كبرى في البلاد، لذا كان من الصعب على قطاع التصنيع توظيف عمال لديه بل والإبقاء عليهم. وخلال هذا العام، عانت أكثر من 80٪ من الصناعات الصينية من نقص العمالة، وتتوقع وزارة التعليم الصينية أن يتفاقم النقص الحاد في العمالة ليصل إلى حوالي 30 مليون عامل بحلول عام 2025، ولا شك في أن كل هذا قد أعاق قدرة شركات التصنيع الصينية على إنتاج السلع وتصديرها إلى بقية دول العالم إذ أن الاضطرابات الناجمة عن الإغلاق تؤثر سلبًا على قدرة الشركات العالمية في تلبية الطلب .
على صعيدٍ آخر، توقفت السياحة الخارجية في الصين تماماً، فضلًا عن أن قطاع السياحة المحلية المهيمن مُعرض للخطر أيضًا على الرغم من بعض حالات النمو هنا أو هناك لأن الأفراد غير مستعدين لمغادرة المنطقة التي يقطنون بها ومن ثم الوقوع في فخ الإغلاق في منطقةٍ أخرى. ومن الجدير بالذكر أن السياحة قد شكلت ما يقرب من 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2019 قبل تفشي الوباء، حيث يوضح الرسم البياني التالي انخفاض عدد السائحين من حوالي 163 مليونًا إلى ما يقرب من 31 مليون سائح في عام 2020.
كان القطاع العقاري من بين تلك القطاعات التي تأثرت بهذه السياسة وظل يعاني من مشكلات عدة تفاقمت على مدار عدة سنوات، إذ يمثل هذا القطاع ما يقرب من 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وقد أدت الأزمة في قطاع الأعمال التي بدأت في أواخر عام 2021 عندما تخلف أبرز المطورين عن التزاماتهم بالتمويل إلى إبطاء أو وقف بناء المنازل المبيعة مسبقًا في جميع أنحاء البلاد، ما تسبب في اندلاع احتجاجات نادرة الحدوث هذا العام من جانب أصحاب المنازل الذين رفضوا دفع الرهون العقارية على المنازل غير المكتملة، وعلى الرغم من اتخاذ بكين لإجراءاتٍ عديدة لإنقاذ قطاع الصناعة ومنها إطلاق خطة من 16 نقطة لتخفيف أزمة الائتمان في نوفمبر 2022، لا تزال الإحصاءات ترسم صورة قاتمة.
وأخيرًا، انخفض مؤشر الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى 49.2 نقطة في نوفمبر2022 مقارنةً بـ 49.9 نقطة في أكتوبر2022، مما يشير إلى انكماش نشاطها للشهر الثاني على التوالي، وفي نوفمبر 2022، استمر الإنتاج الصناعي وغير الصناعي في الانخفاض تدريجياً، وبشكلٍ عام، شهدت العديد من الصناعات انخفاضًا حادًا حيث انخفض مؤشر الإنتاج لقطاع المطاعم والفنادق من 44.4 نقطة في أكتوبر إلى 35.7 نقطة في نوفمبر 2022، يليه انخفاض مؤشر الإنتاج لقطاع الجملة والتجزئة بمقدار 5.3 نقطة مئوية ليصل إلى 44 نقطة وتراجع مؤشر مبيعات قطاع العقارات بمقدار 5 نقطة مئوية ليصل إلى 45 نقطة، كما تراجعت وتيرة التباطؤ في نشاط التصنيع في نوفمبر 2022، حيث تحسن مؤشر الإنتاج لقطاعات التصنيع كثيفة العمالة ورأس المال بمقدار 2.8 نقطة مئوية و5.2 نقطة مئوية على التوالي ليصل إلى 48.3، و50 نقطة مئوية، كما ارتفعت تقديرات مبيعات العقارات بشكل هامشي من 47.7 في أكتوبر2022 إلى 50 في نوفمبر 2022، مقارنةً بالتوقعات الخاصة بقطاعات التجزئة والتأجير والصناعات كثيفة العمالة.
نتيجةً لذلك، تأثر معدل بطالة الشباب ووصل إلى مستوياتٍ جديدة في عام 2022، حيث قفز من 15.3٪ في مارس2022 إلى 18.2٪ في أبريل 2022، واستمر في النمو خلال الأشهر التالية ليصل إلى 19.9٪ في يوليو 2022. ووفقًا لحسابات شبكة “سي إن إن” المستندة إلى أرقام حكومية، بلغ عدد سكان الحضر من الشباب 107 مليون، مما يعني أن هناك حوالي 20 مليون فرد عاطل عن العمل تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا.
كل هذا يعكس تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، الذي قفز بنسبة 3٪ في عام 2022، وهو أقل بكثير من هدف الحكومة البالغ 5.5٪، ولكنه أفضل مما توقعه معظم الاقتصاديين. كما كان النمو الاقتصادي في عام 2022 هو الأبطأ منذ عام 1976، باستثناء عام 2020 الذي شهد بداية الوباء حيث نما الناتج المحلي الإجمالي السنوي فيه بنسبة 2.2٪.
مع إلغاء سياسة “صفر كوفيد” وإعادة فتح البلاد، بدأت حالات الإصابة بجائحة كوفيد-19 والوفيات تتزايد بشكلٍ ملحوظ، بينما يواجه المسؤولون أزمة عقارية أنهكت الاقتصاد الصيني بالفعل لأكثر من عام، فضلًا عن تراجع الصادرات التي كان لها دور محوري في دعم التنمية الاقتصادية خلال المراحل الأولى من تفشي الوباء. ومع ذلك، لا زال خبراء الاقتصاد يتوقعون تعافي الاقتصاد الصيني سريعًا في ظل إعادة فتح البلاد في عام 2023.
من وجهة نظرنا، يبدو أن الحكومة الصينية أعادت فتح اقتصادها بعد ثلاث سنوات من تطبيق سياسة “صفر كوفيد” لأنها أدركت أن تلك السياسة قد أضرت بالاقتصاد القومي أكثر مما ساعدته كما تبين مما ذكرناه آنفًا. ومع ذلك، ليس من المتوقع أن يتعافى الاقتصاد الصيني سريعًا لأن الحكومة لا يزال أمامها الكثير من التحديات التي يجب التغلب عليها على المستويين الداخلي والخارجي.
لذلك، من ناحية، ينبغي على الحكومة الصينية اتخاذ العديد من الإجراءات والإصلاحات لدعم قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة حيث شكلت الشركات الصغيرة حوالي 80٪ من العمالة غير الحكومية في البلاد في نهاية عام 2019. كما ينبغي أيضًا إجراء المزيد من الإصلاحات لتعزيز الاستهلاك واستعادة ثقة المستهلك في العديد من المجالات مثل الاقتصاد الرقمي، كما تحتاج البلاد إلى تحسين قطاع العقارات الذي يحتاج إلى مراجعةٍ دقيقة لأنه كان يمر بالفعل بأزمةٍ قبل تطبيق سياسة “صفر كوفيد” ويشكل 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي للصين.
ومن ناحيةٍ أخرى، سيتعين على الحكومة بذل مزيد من الجهد لدعم استقرار الاقتصاد ومواصلة استعادة النمو الاقتصادي بغية زيادة الناتج المحلي الإجمالي للصين. كما يلزم على الحكومة وضع سياسات وحوافز جديدة تهدف إلى استعادة ثقة الشركات وجذب المستثمرين الذين كانوا يعتمدون على سلاسل التوريد المحلية واضطروا للبحث عن بدائل أخرى، مثل فيتنام والمكسيك، بسبب تطبيق سياسة “صفر كوفيد”، وهناك جانب آخر يتمثل في إحياء قطاع السياحة حيث تحتاج الحكومة إلى تبني إستراتيجيةٍ تهدف إلى القضاء على انتشار الفيروس والسيطرة على معدلات الوفيات من خلال تزويد السكان بالأدوية واللقاحات المناسبة – على سبيل المثال – خاصةً بعد الإعلان عن ارتفاع أعداد الوفيات منذ إعادة فتح البلاد، وهو الأمر الذي من شأنه أن يرسل رسالة طمأنة مفادها أن البلاد آمنة ومن ثم توجه دعوة إلى السياح بزيارة البلاد.
China’s “Zero Covid” Policy Needs Change, Curbs Risk Stalling Economy: Chinese Think Tank [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.outlookindia.com/international/china-zero-covid-policy-needs-change-curbs-risk-stalling-economy-chinese-think-tank-news-219662
What Is China’s “Zero-COVID” Policy? [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.voanews.com/a/what-is-china-s-zero-covid-policy-/6854291.html
China’s factories suffer from end of zero-Covid policy | Financial Times [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.ft.com/content/665f4254-f0d5-4f98-bee5-879995ef149d
Zero-Covid: five charts that show how restrictions are throttling the Chinese economy | China | The Guardian [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.theguardian.com/world/2022/dec/01/zero-covid-five-charts-that-show-how-restrictions-are-throttling-the-chinese-economy
Covid-19: China’s surge in cases hits factories and consumer market | CNN Business [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://edition.cnn.com/2022/12/26/economy/china-covid-surge-economy-strain-intl-hnk/index.html
China’s “Zero-COVID” Policy and its Economic Effects | INSS [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.inss.org.il/publication/china-zero-covid-economy/
As China abandons zero-Covid, what will the economy look like in 2023? | CNN Business [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://edition.cnn.com/2022/12/29/economy/china-economy-2023-outlook-hnk-intl/index.html
Economic Alert China SMEI-Activity slowed further in November. [cited 2023 Apr 25]; Available from: https://research.sc.com
1 in 5 of China’s urban youth are unemployed. That’s a huge headache for Xi Jinping | CNN Business [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://edition.cnn.com/2022/09/19/economy/china-youth-jobs-crisis-xi-jinping-intl-hnk-mic/index.html
Covid: China 2022 economic growth hit by coronavirus restrictions – BBC News [Internet]. [cited 2023 Apr 25]. Available from: https://www.bbc.com/news/business-64286126
China Suddenly Abandoned Its Zero COVID Policy. How Did It Start In The First Place? – The Diplomat [Internet]. [cited 2023 Apr 26]. Available from: https://thediplomat.com/2023/01/china-suddenly-abandoned-its-zero-covid-policy-how-did-it-start-in-the-first-place/
China coronavirus: 60,000 Covid-related deaths in just over a month – BBC News [Internet]. [cited 2023 Apr 26]. Available from: https://www.bbc.com/news/world-asia-china-64276608
China’s factories suffer from end of zero-Covid policy | Financial Times [Internet]. [cited 2023 Apr 26]. Available from: https://www.ft.com/content/665f4254-f0d5-4f98-bee5-879995ef149d
China’s SMEs: how important are small firms to the economy, and what challenges are they facing? | South China Morning Post [Internet]. [cited 2023 Apr 26]. Available from: https://www.scmp.com/economy/china-economy/article/3155660/chinas-smes-how-important-are-small-firms-economy-and-what
تعليقات