أثبت الزلزال الذي ضرب مناطق جنوب تركيا في فبراير عام 2023 أن الكوارث الطبيعية التي تحدث في القرن الحادي والعشرين لا تسفر فقط عن أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، بل تتسبب أيضًا في حدوث تداعيات سياسية، فعندما ضرب الزلزال تركيا، أدرك السياسيون أنها فرصة سانحة لتحقيق أجندتهم السياسية التي طال انتظارها. فعلى الصعيد الداخلي، بدأت أحزاب المعارضة تتهم الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته بسوء إدارة الأزمة والإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص قبل الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في مايو من العام الجاري. وعلى الصعيد الدولي، استحوذت قضايا مثل توسع الناتو والعلاقات الثنائية مع اليونان وصفقة شراء مقاتلات F-16 المتعثرة على مساحة أكبر في المناقشات بعد اندلاع الزلزال، وهو ما أظهر أهمية الإلتفات إلى الكوارث الطبيعية بوصفها أداة سياسية يمكن استغلالها وتوظيفها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة.
عندما ضرب الزلزال ولاية كهرمانماراس التركية، كانت البلاد تعاني بالفعل من ظروف اقتصادية قاسية، حيث قفز معدل التضخم في الشهر الذي سبق الزلزال إلى 57.68٪ ، و ازدادت الأمور سوءًا مع الكارثة الطبيعية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد التركي المنهك بالفعل، في ظل حقيقة أن المنطقة التي ضربها الزلزال كانت موطناً لأكثر من 13.5 مليون شخص وتُشكل 9٪ من الناتج المحلي الإجمالي بالنظر إلى إنتاجها الزراعي، كما أنه من المتوقع أن تتوقف الأعمال التجارية المحلية بسبب الزلزال وتداعياته المدمرة. وبحسب الخبراء، ستكون هذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها الطبقة الوسطى في تركيا بألم ارتفاع الأسعار في ظل معدل التضخم الذي يتجاوز نمو الدخل وإيجارات المساكن، بعد ارتفاعه لمعدلات قياسية تتراوح ما بين 120٪ إلى 180٪. وبالنظر إلى حقيقة أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية يستخدمان البناء والتنمية الاقتصادية دائمًا كشعار رئيسي للترويج لهما، أو المعجزة الاقتصادية للحزب كما يطلق عليهما، فقد ألقى الزلزال ونتائجه غير السارة القيادة الحالية في نفق مظلم قبل شهور فقط من توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
وفي بداية الأزمة واجهت الحكومة التركية اتهامات بأنها فقدت السيطرة وسط الكارثة، ما وكشفت عن مدى الضعف الذي تعاني منه مؤسسات الدولة، فيعتقد البعض أن أحد الأسباب الرئيسية وراء أوجه القصور التي تم الكشف عنها في استجابة الحكومة بعد الأزمة هو رفض أردوغان السماح للجيش التركي بالتدخل رغم أنه مجهز بشكل أفضل من أي جهة في البلاد للقيام بالمهمة المطلوبة. وأظهرت الأزمة بوضوح حساسية العلاقات المدنية العسكرية في تركيا بالنظر إلى تاريخ الانقلابات العسكرية المتتالية التي شهدتها البلاد؛ كان آخرها المحاولة الفاشلة للإطاحة بأردوغان نفسه في عام 2016، وبناءً على ذلك، لم يرغب أردوغان في منح الجيش فرصة للتصرف بطريقة قد تعزز صورته في نظر السكان، إذ أن في ظل الأزمة، لم تعد عيون الناخبين الناقدين موجهة نحو القضايا العادية المتعلقة بالصعوبات الاقتصادية والديمقراطية ، بل أيضًا صوب جهود الإغاثة وما يسمى بضريبة الزلزال.
علاوة على ذلك، يعتقد البعض أن الزلزال “من صنع الإنسان بشكل جزئي”، وهذا لا يعني أنه كان “هجوماً منهجياً” على الشعب الكردي كما زعم بعض المعلقين. ولكن هذا الوصف يعني أنه كان من الممكن تجنب عواقبه المميتة إذا تمت معالجة الأمور بشكل أكثر كفاءة، وإذا كانت البنية التحتية التركية جاهزة لمثل هذه المفاجأة “المتوقعة”.
حيث كانت حكومة أردوغان قد أصدرت قانون عفو عن المباني القائمة التي انتهكت قواعد البناء مقابل رسوم في عام 2018، والذي سمح بتقنينها وعدم هدم أي مبنى تم بناؤه بدون ترخيص أو انتهك تصاريح البناء، ويعتقد الكثير من المعلقين أن هذا هو أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم استعداد تركيا لمواجهة زلزال بقوة 7.8 درجة. بالإضافة إلى ذلك، فإن إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، التي كان من المفترض أن تقوم بمهمة الإغاثة، هي واحدة من العديد من الهيئات التي انخفضت ميزانيتها وتم إعادة توجيه الأموال المخصصة لها إلى مديرية الشؤون الدينية. ونتيجة لذلك، تقلصت ميزانية إدارة الكوارث والطوارئ من 12.1 مليار إلى 8 مليارات ليرة تركية، بانخفاض بلغ الثلث.
كما كشف أردوغان ووزرائه أن الأموال التي تجمعها إدارة الكوارث والطوارئ لا تذهب بالضرورة نحو هدف الإغاثة من الكوارث، ومع ذلك، فقد تم إنفاقها على مشاريع البنية التحتية الأخرى وتسديد قرض من صندوق النقد الدولي.
وبالنظر إلى كل هذا، يمكن القول إن الظروف الاقتصادية القاسية التي يعاني منها الأتراك بالفعل، إلى جانب سوء التعامل مع الوضع بعد الكارثة الطبيعية التي ضربت الجزء الجنوبي من البلاد في شهر فبراير الماضي، ستؤثر على نتائج انتخابات مايو . ونتيجة لذلك، تشير استطلاعات الرأي إلى أنه للمرة الأولى في حكم أردوغان الذي دام عشرين عامًا باعتباره أطول زعيم تركي في تاريخ الجمهورية التركية، قد يتم الإطاحة به من منصبه في نهاية المطاف.
بالانتقال إلى السياسة الإقليمية والدولية، يتبين أنه في نفس يوم اندلاع الكارثة، أعلنت دول مثل السويد وفنلندا واليونان عن إرسال مساعدات إلى الأقاليم التركية المتضررة من الزلزال. وكانت اليونان من أوائل الدول التي ترى أنها أتيحت لها فرصة سانحة من رحم الكارثة، إذ كانت العلاقات التركية اليونانية قد مرت بمرحلة الديجافو ( Déjà-vu) أي أن كلا البلدين مرا بذات الوضع بعد زلزال عام 1999 الذي ضرب مدينة إزمير التركية ، لذا فإن دبلوماسية الزلازل ليست جديدة في العلاقات الثنائية بين الدولتين.
وعلى الرغم من كونهما عضوين في الناتو، إلا أن الخلافات دائما ما تدب بينهما مما يزيد من مرارة تلك العلاقة. وفي الآونة الأخيرة، تصاعدت التوترات، واندلعت حرب كلامية حول نزاع بحر إيجة “التقليدي”. وسارعت أثينا للاستفادة من هذه القضية بإرسال وزير خارجيتها كأول مسؤول من الاتحاد الأوروبي يزور تركيا بعد الكارثة.
وينطبق ذات الوضع على الثنائي الاسكندنافي (السويد وفنلندا)، وتعثر محاولتهما للانضمام إلى الناتو، حيث اتخذتا أيضًا خطوات مماثلة لتلك التي اتخذتها اليونان، حيث كانت السويد من بين أوائل الدول التي أعلنت عن إرسال مساعدات إنسانية إلى تركيا، وكأن الدولتين كانتا تنتظران إلى تلك الفرصة لاغتنامها. ومع ذلك، فإن الكلمات اللاحقة التي أعلنها المسؤولون الأتراك لم تُعْطِ إشارات إيجابية بشأن أي توسع قادم لحلف شمال الأطلسي.
وبلغت انعكاسات الكارثة ذروتها بزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى تركيا، حيث أثار وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو والوزير بلينكن القضايا الأكثر إلحاحًا لإيجاد فرصة لانتزاع تنازلات من بعضهما البعض . وألمح أوغلو إلى نقطة العقوبات العسكرية، وكيف ينبغي أن تتم صفقة مقاتلات F-16، وكيف سيؤثر ذلك بشكل إيجابي على “كلا الجانبين” وحلف شمال الأطلسي ككل. ومع ذلك، لم يكن ممكنًا لأوغلو أن يضيع الفرصة دون التحدث عن حزب العمال الكردستاني والحركة الكردية. فمن المعروف أن الولايات المتحدة تدعم المتمردين الأكراد في سوريا، دون أن يُشكل ذلك صدامًا مباشرًا بين الأتراك والأمريكان، لكنه لا يزال يثير قلق السلطات التركية. وبالطبع، من المفهوم أن التلميح كان يهدف إلى ممارسة الضغط من الجانب التركي من خلال تذكيرهم بأن دعمهم للأكراد يقف في طريق توسيع الناتو.
واستكمل جاويش أوغلو حديثه بذكر محاولة السويد للانضمام إلى الناتو مباشرة بعد الإشارة إلى المسألة الكردية وعلاقتها بمكافحة الإرهاب. وكان وزير الخارجية فطنًا في هذه الإشارة المحددة لسببين، أولًا: كما ذكرنا سابقاً، كان لابد من تذكير الإدارة الأمريكية بأن الدعم الغربي للأكراد يشكل عقبة أمام هدفهم المتمثل في توسيع الناتو في مواجهة العدوان الروسي. ثانيًا: كان من الضروري أيضًا استخدام سردية “مكافحة الإرهاب” عند الحديث عن مفاوضات F-35 و F-16 وحزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب باعتبارها نفس الرواية التي تستخدمها الإدارة الأمريكية عادةً لتلميع أي إجراء بالشرعية الدولية المطلوبة.
من جانبه، رد بلينكن بتذكير شريكه التركي بأن دعم الولايات المتحدة يأتي عادة مقابل الدعم التركي في مختلف الأحداث، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وكيف أنه من المفترض أن تتصرف تركيا بما يتماشى مع الأهداف الغربية. كلمات بلينكن فيما يتعلق بهذا الهدف جاءت كتذكير لجاويش أوغلو بأنه “لا أحد يُعطي دون مُقابل” في السياسة. كما أنه لم يفوت الفرصة وذكر طلب فنلندا والسويد لعضوية الناتو الذي منعه الرفض التركي.
كذلك لم يكن بلينكن أقل ذكاءً من جاويش أوغلو وكان يهدف إلى لعب نفس اللعبة المتمثلة في التذكير بأهمية التعاون الدبلوماسي كشرط أساسي لتحقيق أي مكاسب. كان هذا واضحًا عندما ذكر نقاط الخلاف المعتادة بين العواصم الغربية وأنقرة. وتحدث عن طلبات انضمام أوكرانيا والبلقان واليونان وأرمينيا وحلف شمال الأطلسي قبل أن يلمح إلى الرغبة الأمريكية في إبقاء تركيا “قوة جوية” دولية داخل حلف الناتو. ولا شك في أن “القوة الجوية” تستخدم في هذا السياق للإشارة إلى صفقة F-16 المتعثرة والأموال المدفوعة مقابل F-35.
ختامًا، يمكن القول أنه في القرن الحادي والعشرين لا يمكن اعتبار الكوارث الطبيعية مجرد مأساة تخلف وراءها مئات الوفيات، حيث أثبت الزلزال الأخير في تركيا أنه يمكن تسييس كل شيء والاستفادة منه من جانب السياسيين وزعماء العالم لفرض أجندتهم وتحقيق أهدافهم، ومنذ ذلك الحين أصبح المشهد السياسي التركي مليئًا بالقضايا الساخنة وبدأ القادة من اليونان والولايات المتحدة وفنلندا والسويد في توظيف الكارثة، وبات موقفهم واضحًا تمامًا مع زيارة بلينكن إلى تركيا، وهي الزيارة التي اتخذت المساعدات الإنسانية كـ “واجهة” للضغط على الحكومة التركية للسماح بتوسيع الناتو الشمالي واتخاذ موقف أكثر حزماً ضد روسيا في حربها ضد أوكرانيا. ولا يبدو أن أيًا من القضايا التركية المذكورة أعلاه ستشهد أي تعديلات في المستقبل القريب بعدما قال جاويش أوغلو صراحة بأنه: ” لن تكون أيدينا مغلولة”.
France-Presse, Agence. “Greece, Turkey Urge Better Relations after Quake.” VOA. Voice of America (VOA News), February 12, 2023. https://www.voanews.com/a/greece-turkey-urge-better-relations-after-quake-/6959424.html.
Dougall, David Mac. “Can ‘Earthquake Diplomacy’ Help NATO Chances for Sweden and Finland?” euronews, February 15, 2023. https://www.euronews.com/2023/02/15/can-earthquake-diplomacy-help-nato-membership-chances-for-sweden-and-finland.
of State, U.S. Department. “Secretary Antony J. Blinken and Turkish Foreign Minister Mevlut Cavusoglu at a Joint Press Availability – United States Department of State.” U.S. Department of State. U.S. Department of State, 2023. https://www.state.gov/secretary-antony-j-blinken-and-turkish-foreign-minister-mevlut-cavusoglu-at-a-joint-press-availability/.
Ozel, Soli. “Les Séismes En Turquie : Une Onde de Choc Pour Les Élections ? .” Institut Montaigne, 2023. https://www.institutmontaigne.org/en/expressions/will-turkeys-earthquakes-create-shock-waves-election-day.
Stat, Turk. “Tüketici Fiyat Endeksi.” Tüi̇k Kurumsal, 2023. https://data.tuik.gov.tr/Bulten/Index?p=Tuketici-Fiyat-Endeksi-Subat-2023-49656.
Fox, Tessa. “The Quake That Exposed Erdogan’s Fault Lines.” Foreign Policy, February 13, 2023. https://foreignpolicy.com/2023/02/13/turkey-syria-earthquake-erdogan-elections-negligence/.
Gazetesi, Birgün. “Afad’ın Bütçesi Makaslandı, Diyanet’in Şaha Kalktı.” birgun.net, February 9, 2023. https://www.birgun.net/haber/afad-in-butcesi-makaslandi-diyanet-in-saha-kalkti-420737.
تعليقات