بعد انقشاع رياح ما يُسمى بالربيع العربي، ظهرت رؤى متباينة حول مراحل الإصلاح وإعادة بناء الدول العربية في أعقاب تغيير أنظمتها السياسية. ومع أن الرؤى المختلفة القادمة من القوى العالمية مثل الاتحاد الأوروبي تؤيد أهمية إعطاء الأولوية للديمقراطية في عملية الإصلاح، تكشف المراقبة المتعمقة للسياسات الحالية لتلك الدول أنها تعطي الأولوية للاستقرار الاقتصادي والعسكري على حساب الديمقراطية، ومن هنا ينشأ التناقض ويدور التساؤل الذي يمثل معضلة جوهرية حول "ما الذي يجب أن يأتي أولًا في عملية إصلاح الدول العربية؟" والأهم من ذلك، إذا كان الإصلاح يستلزم تحقيق الرضا الشعبي حتى يكون مستدامًا، فهل ستظل الديمقراطية الهدف الذي من المفترض أن يعمل صانعو السياسة على تحقيقه أم لا؟
تنص “نظرية التحديث” (Theory of Modernization)على أنه بمجرد الوصول إلى عملية التنمية الاقتصادية في مجتمعٍ ما، يمكن بعد ذلك تحقيق الديمقراطية في هذا المجتمع. بعبارةٍ أخرى، يجب السعي إلى الإصلاح الاقتصادي أولًا لتمهيد الطريق لأي شكلٍ من أشكال الديمقراطية حتى يكون المجتمع متقبلًا لها. ووفقًا لنموذج روستو (Rostaw’s model of growth) لمراحل النمو الاقتصادي، تمر الدول بخمس مراحل من التنمية الاقتصادية كشرطٍ مسبق لـ “التحديث”؛ المعروف أيضًا باسم الديمقراطية. وبغض النظر عن نظرية التحديث، فلا شك في أن رضا المواطنين هو عنصر أساسي في معادلة التنمية. وعليه، يتطلب وصول العالم العربي إلى وضعٍ يرضي شعوبه تحقيق التنمية الاقتصادية أولًا لأنها ستكون المحرك الرئيسي لبناء طبقة وسطى قادرة على إيصال مطالب الناس فضلًا عن المساعدة في توفير نظام تعليمي جيد يصوغ عقول المشاركين في أي عمليات ديمقراطية فيما بعد. والأهم من ذلك أن الشعوب العربية نفسها تعطي الأولوية للتنمية الاقتصادية والاستقرار على حساب الحقوق الديمقراطية. وبالتالي، فإن الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه تلك البلدان هو تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية أولًا، ثم السعي لتحقيق الديمقراطية.
ولتحديد الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل الإصلاح، يجب فهم عقلية الناس في المقام الأول والتساؤل حول “ما إذا كان المتظاهرون الذين ثاروا على الأنظمة في عام 2011 يبحثون عن الديمقراطية أم كانوا يحاولون فقط تحسين مستوى معيشتهم؟” فعلى سبيل المثال، يثبت تحليل الموقف أن إعطاء الأولوية للديمقراطية لم يكن خيار الشعب في ذلك الوقت حيث فرضت الأوضاع الراهنة حينها إعطاء الأولوية للأمن والاقتصاد. وفيما يتعلق برضا الجمهور، أظهر استطلاع أجرته شبكة الباروميتر العربي في عام 2019 حول أهم قضية يريد المصريون معالجتها في بلادهم أن الاقتصاد ومكافحة الإرهاب يحتلان أعلى المعدلات (وفقًا للشكل 1)، حيث جاءت موضوعات مكافحة الإرهاب والتنمية الاقتصادية على رأس قائمة القضايا الملحة، ولم تظهر المشاركة السياسية والعملية الديمقراطية حتى على القائمة، بينما شكلت الفئة المسماة “أخرى” 9٪ من اهتمامات الناس، وهذه الحالة تعكس انخفاض الاهتمام بالديمقراطية إلى أدنى مستوياته خاصةً في أوقات الصعوبات الاقتصادية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنها تكشف عن فقدان الحماس للمشاركة السياسية نظرًا لعدم ذكرها من الأساس في الاستطلاع.
بالإضافة إلى ما تقدم، أظهر استطلاع آخر حول أهم سمة للديمقراطية بالنسبة للمصريين أن 76٪ من المشاركين كان لديهم ردود اجتماعية واقتصادية وليست ردودًا سياسية، بل وكان دعمهم للديمقراطية مدفوعًا باعتقادهم أن هذا الشكل من الحكم يعود بالنفع على الاقتصاد. ومن بين الإجابات الأخرى، اعتبر 64.4٪ من المشاركين أن الديمقراطية تعني القضاء على عدم المساواة وتوفير الضروريات الأساسية لجميع المواطنين، بينما اعتبر 6٪ فقط أن الديمقراطية تعني القدرة على تغيير الحكومة واعتبر 3.9٪ فقط أنها حق المواطنين في انتقاد حكامهم. وقد كشفت هذه الإجابات عن حقيقة مهمة للغاية وهي أنه حتى عندما يطالب المصريون بالديمقراطية، فإن تعريفهم للديمقراطية يختلف تمامًا عن التعريف الغربي لها. بعبارةٍ أخرى، يفهم المصريون الديمقراطية بوصفها أداة للوصول للرفاهية الاقتصادية وليست أداة لانتخاباتٍ حرة ونزيهة أو حرية التعبير أو أي سمة أخرى للديمقراطية وفقا للتعريف المنتشر لها، وقد انعكس هذا في شعار ثورة 2011 “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”.
بعد الربيع العربي مباشرةً واندلاع احتجاجات جماهيرية واسعة في معظم أنحاء البلدان العربية فيما كان يُنظر إليه في ذلك الوقت على أنه الموجة الرابعة من الديمقراطية، أدركت الديمقراطيات الغربية أن سياساتها القديمة لاستيعاب الأنظمة الاستبدادية في المنطقة كانت معيبة. وقد فُوجئت الديمقراطيات الغربية بتلك الاحتجاجات لأنها لم تستطع التنبؤ بمثل هذه التغيرات الجذرية في منطقةٍ تحكمها أنظمة شديدة الرسوخ والإستقرار . وفي الآونة الأخيرة، تغيرت سياساتهم وبدأوا في استخدام شروط المساعدات كأداةٍ لتطبيق الديمقراطية في الدول غير الديمقراطية. وبالنظر إلى سياسات الاتحاد الأوروبي في المنطقة بعد الربيع العربي وخاصةً بعد سقوط نظامي مبارك وبن علي، يتبين أن الاتحاد الأوروبي تحول على سبيل المثال إلى داعمٍ للعملية الديمقراطية في مصر، بل ودعا إلى إحداث نقلةٍ نوعية في علاقاته على أساس التركيز بشكلٍ أكثر على التحول الديمقراطي الذي يؤيد المفهوم الجديد لـ “الديمقراطية العميقة”- “Deep Democracy”. ومن ثم، أعطت سياسة الاتحاد الأوروبي الأولوية لتحقيق الديمقراطية في تلك البلدان على أي هدفٍ آخر، وهذه السياسة معدلة لأن السياسة القديمة لدعم القادة الاستبداديين قبل الربيع العربي أثبتت فشل الاتحاد الأوروبي. علاوةً على ذلك، بات أي نوع من المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها تلك الدول من الاتحاد الأوروبي متوقفًا على سلسلةٍ من الشروط المتعلقة بإرساء الديمقراطية، فيما أصبح يُعرف لاحقًا بشروط الاتحاد الأوروبي بعد الربيع العربي. من ناحيةٍ أخرى، أظهرت السياسات التي رُوِّج لها في الدول العربية بعد الربيع العربي مسارًا مختلفًا عن المسار الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي؛ فبينما تُعتبر الديمقراطية مهمة، هناك أشياء أخرى أكثر أهمية في تلك الدول. والأمر هنا لا يتعلق بما إذا كانت السياسات التي يحاول الاتحاد الأوروبي فرضها بقوة الشروط صحيحة من عدمه، لكنه يتعلق بالطريقة التي يحاول بها الاتحاد الأوروبي جعل الدول النامية تتبع ذات المسار الذي سلكه الغرب من قبل، وذلك لأن توقيت وتسلسل وهيكل الدول النامية الحالي يختلف اختلافًا جذريًا عن الظروف التي عاشتها الدول الأوروبية أثناء مراحل تطورها الأولى، مما يعني أن تشكيل مستقبل المنطقة يجب أن يأخذ منحنى آخر لأن النهج الغربي الذي يتبعه الغربيون وحرصهم على فرض قيم الديمقراطية على تلك الدول يجعل الديمقراطيين غير ديمقراطيين.
خلاصة القول، توضح نظرية التحديث المراحل التي تمر بها الدول قبل أن تصل إلى المرحلة النهائية من التنمية الاقتصادية والتي تصبح بعدها مؤهلةً للتحول الديمقراطي. وعلى الرغم من أن بعض تصورات النظرية مشوهة ويغلب عليها الطابع الغربي، فهي تساعد في فهم تسلسل الخطوات التي يتعين على الدول النامية أن تمر بها قبل أن تصبح ديمقراطية بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يُؤخذ في الاعتبار ما يعتبره الناس هدفًا لهم لأن فرض الديمقراطية على الدول غير الديمقراطية هو عمل غير ديمقراطي في حد ذاته، كما يتعين على الغرب عند التعامل مع الدول غير الديمقراطية فهم أن سياساته الحالية بحاجةٍ إلى المراجعة والتعديل. ويبقى السؤال المطروح الآن: ما الذي يجب أن يأتي أولا في عملية الإصلاح؟ وهل نحن بحاجةٍ إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار قبل الديمقراطية أم أن الديمقراطية يجب أن تأتي أولًا أم يمكننا فعل ذلك كله في آنٍ واحد؟
Peters, Joel. “The European Union and the Arab Spring Promoting Democracy and Human Rights in the Middle East.” Rowman& Little Field, 2012.
Diamond, Larry. “7. Seymour Martin Lipset. 1959. ‘Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy.’ American Political Science Review 53 (March): 69–105 Cited 455 Times.” American Political Science Review 100, no. 04 (2006): 675. https://doi.org/10.1017/s000305540628256x
Brueckner, Markus, Era Dabla-Norris, Mark Gradstein, and Daniel Lederman. “The Rise of the Middle Class and Economic Growth in ASEAN.” Open Knowledge Repository. World Bank, Washington, DC, 2017. https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/cb1446de-608f-5627-ae8a-a8d7dabe629d
Welzel, Christian, Ronald Inglehart, and Stefan Kruse. “Pitfalls in the study of democratization: Testing the emancipatory theory of democracy.” British journal of political science 47, no. 2 (2017): 463-472.
Barometer, Arab. “Arab Barometer V Egypt Country Report.” Arab Barometer, 2019. https://www.arabbarometer.org/wp-content/uploads/ABV_Egypt_Report_Public-Opinion_Arab-Barometer_2019.pdf
Urbinati, Nadia. “Democracy Disfigured .” – Nadia Urbinati | Harvard University Press, 2014. https://www.hup.harvard.edu/catalog.php?isbn=9780674725133
Teti, Andrea. “Democracy without social justice: Marginalization of social and economic rights in EU democracy assistance policy after the Arab Uprisings.” Middle East Critique 24, no. 1 (2015): 9-25.
Isa, Felipe Gómez. “EU promotion of deep democracy in Egypt after the Arab spring: A missed opportunity?.” Revista electrónica de estudios internacionales (REEI) 33 (2017): 3.Gómez Isa, F., 2017. EU promotion of deep democracy in Egypt after the Arab spring: A missed opportunity? Revista Electrónica de Estudios Internacionales, (33).
Biscop, Sven, Rosa Balfour, and Michael Emerson. “An Arab springboard for EU foreign policy?.” (2012).
تعليقات