ستدخل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة سنتها الثانية دون أي أفق لوقفها قريباً. ومع استمرار هذه الحرب وما يصاحبها من تصعيد إقليمي تبدو صورة السلام في المنطقة العربية قاتمة، وأبوابه مغلقة وفرصه ضئيلة. رقعة التوتر تتسع يوما بعد يوم وتمتد خارج دائرة الحرب على غزة التي تسببت في استشهاد أكثر من 40 ألف مدني وتهجير وتجويع نحو 2 مليون فلسطيني يعيشون حالة إنسانية صعبة. أحداث 7 أكتوبر الدامية أشعلت نارا يصعب إطفاؤها ووضعت المنطقة في مهب رياح ساخنة لا يمكن التكهن بنهاياتها.

 

لذلك يبدو السلام عسيراً بعد أن انتكست مساعي كل من مصر وقطر وأمريكا لتحقيق هدنة مؤقتة. جميع الشواهد تشير إلى أن المنطقة تعيش أجواء حرب بسبب تعنت حكومة إسرائيلية بزعامة بنجامين نتنياهو الذي لا يستجيب لدعوات السلام. في ذات الوقت فإن انقسام البيت الفلسطيني يعيق أي تحرك جاد نحو السلام. أكثر من ذلك فان إنحياز أمريكا السياسي والعسكري المطلق مع إسرائيل الذي برز بوضوح في إرسال أطنان من الأسلحة الى إسرائيل واستخدام واشنطن حق الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرار لوقف الحرب لا يساعد على تحقيق السلام. ولا شك أن الضعف السياسي والدبلوماسي العربي المزمن غير قادر على تحريك مسار السلام وفق مشروع سلام عربي يلاقي الإزدراء من قبل إسرائيل.

 

الطرف الاسرائيلي قادر على السلام لكنه غير راغب في السلام، ويتصرف بمنطق القوة والعنف والاحتلال والتوسع الاستيطاني ويعول على دعم أمريكي عسكري وسياسي لا حد ولا حدود له. أما الطرف الفلسطيني فهو راغب في السلام ويراهن على حل الدولتين فيما تبقى من فلسطين لكنه غير قادر على فرض السلام بسبب ترهل سلطته وانقسام فصائله وغياب داعم عربي ودولي يعتد به.

 

لكن هذا ليس وقت الإحباط لا القليل منه ولا الكثير. وهذا ليس وقت التشاؤم الذي لا يستقيم مع الحاجة الماسة لوقف الحرب في غزة فوراً وعاجلاُ. مأساة غزة تحتم البحث عن مفاتيح جديدة ومداخل مختلفة لتحقيق السلام.

 

فالمنطقة أمام مسارين لا ثالث لهما. أحدهما استمرار سيناريو الحرب والآخر مسار السلام، والقرار بيد دول المنطقة وبيد عقلائها وليس بيد قوى العنف والتطرف والفوضى. من المهم تكثيف الجهد السياسي والدبلوماسي للخروج من نفق الحرب والبحث بواقعية وبحس المسؤولية عن فرص السلام التي تتبلور عادة من رحم المأساة المروعة الناجمة عن أحداث 7 أكتوبر. ففي رحم الوضع الإنساني الكارثي يلوح في الأفق بصيص أمل لمسار صعب لتحقيق السلام تتحمل مسؤوليته أمريكا التي اتضح أنها تملك 99% من أوراق المنطقة بالتعاون مع خمس دول عربية هي مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر.

 

لكن من بين جميع هذه الدول الحريصة على الاستقرار الإقليمي، أعلنت الإمارات مؤخراً عن رؤية متكاملة وجريئة لمرحلة ما بعد حرب غزة. جاء هذا الإعلان متسقاً مع توجه الإمارات لتخفيف التوترات في المنطقة. حدث ذلك مع إيران وتركيا وسوريا وأفغانستان وإسرائيل. لقد تحرك البلدوزر الدبلوماسي الاماراتي في أكثر من اتجاه خلال الأربع سنوات الماضية وهو الآن يتجه بحرص وتأن للإعداد لمرحلة ما بعد حرب غزة.

 

ركزت الإمارات خلال سنة من الحرب على غزة على الجهد الإغاثي، وسجلت أعلى معدل لإرسال المساعدات الطبية والمساعدات الإنسانية، كان آخرها قيادة حملة دولية عاجلة وطارئة لتوفير 1.3 مليون جرعة دواء لتطعيم نحو 600 ألف طفل ضد شلل الأطفال. قامت الإمارات بهذا الجهد الطبي في ظل ظروف لوجستية وأمنية وسياسية في غاية الصعوبة.

 

وبالتزامن مع الجهد الطبي والغذائي الإغاثي، استبقت الإمارات الجميع بطرح تصورها لمرحلة ما بعد الحرب على غزة. كانت الإمارات أول دولة في العالم تبدي الإستعداد لإرسال قوات لحفظ السلام في غزة. جاء ذلك ضمن رؤية إماراتية للإنتقال من دائرة الحرب إلى مرحلة السلام. تلخصت مبادرة الإمارات الإستباقية في 6 بنود هي: ‏1- تلقيها دعوة رسمية من السلطة الفلسطينية لإرسال قوات لحفظ السلام في غزة ‏2- إجراء السلطة الفلسطينية إصلاحات عميقة ‏بما في ذلك تعيين رئيس وزراء لحكومة فلسطينية جديدة تتمتع بالإستقلالية 3- تسلم السلطة الفلسطينية حكم غزة ‏4- قبول إسرائيل بمبدأ حل الدولتين ‏5- قيام أمريكا بدور قيادي في اليوم التالي للحرب، والأهم من كل ذلك 6- التزام أمريكي رسمي واضح وصريح تجاه قيام دولة فلسطينية مستقلة على أن يكون موثقا في مجلس الأمن.

 

هذه ليست شروط إماراتية بل هي خارطة طريق لتحقيق السلام في المنطقة يبدأ بهدنة ثم وقف حرب غزة، يتولاها إدارة فلسطينية مدنية بدعم من قوات إماراتية وعربية يمهد الطريق لإعادة إعمار غزة.

 

لكن في ظل تردد أمريكا وتلكؤ إسرائيل وعجز السلطة الفلسطينية، أعربت الإمارات على لسان وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد أنها "غير مستعدة لدعم اليوم الثاني من الحرب في غزة دون قيام دولة فلسطينية". حمل هذا التصريح عدة رسائل من بينها كم هو صعب تحقيق السلام، وأنه لا استقرار في المنطقة بدون حل الدولتين الذي هو الحل الوحيد لإنهاء أقدم صراع إقليمي في العالم، علاوة على ذلك تؤكد أنها لا تساوم على عدالة قضية فلسطين، ولا تدير ظهرها لحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة. وتأتي زيارة رئيس الإمارات إلى واشنطن هذا الأسبوع لتحمل رسالة خليجية وعربية على ضرورة أنه لابد من العمل سوياً لوقف حرب غزة الكارثية بحق الشعب الفلسطيني.

 

توظف الإمارات حالياً كل جهدها الدبلوماسي وثقلها السياسي للخروج من دائرة الحرب والنزاعات وعدم الاستقرار والفوضى الى أفق السلام والإستقرار الذي طال انتظاره. لا طريق غير هذا الطريق لتحقيق السلام في منطقة شهدت 4 حروب بين الدول العربية وإسرائيل و3 حروب في الخليج العربي وحده، وأكثر من 20 حرباً أهلية في الصومال والسودان وسوريا وليبيا ولبنان والعراق واليمن وعلى إمتداد المنطقة العربية.

 

لقد تشبعت المنطقة العربية بالحروب والحرائق المشتعلة في أكثر من زاوية. لذلك أخذت الإمارات على عاتقها القيام بدور بلدوزر السلام لتخفيف التوترات وإطفاء حرائق منطقة عربية وشرق أوسطية أنهكتها الحروب، واكتوت بالنزاعات وأهدرت سنوات من عمرها التنموي والحضاري وأخفقت في تحقيق مشروعها النهضوي. الإمارات لا تعيش في فراغ وتعي جيدا مسؤولياتها القومية والتاريخية وتدرك أن استقرارها وازدهارها كما استقرار وازدهار بقية دول الخليج العربي يرتبط أشد الارتباط بالاستقرار في جوارها الجغرافي، وهذا هو باختصار جوهر رؤية الإمارات لتحقيق السلام في المنطقة.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *