تعود جذور الهيمنة الثقافية الغربية إلى الاستعمار الأوروبي في القرن الخامس عشر، وهي الفترة التي تميزت بفرض اللغات والأعراف والعادات الغربية بالقوة على العالم المستعمَر، وقد أدى هذا الإرث الذي كان عنيفًا ومدمرًا في كثيرٍ من الأحيان إلى تهميش الثقافات المحلية وإنشاء تسلسل هرمي عالمي تهيمن عليه القيم الغربية. وشهد القرن العشرين تضخم هذه الهيمنة مع صعود الولايات المتحدة كقوةٍ عظمى عالمية، حيث اتخذت الهيمنة الثقافية الغربية بعدًا جديدًا وباتت الثقافة الشعبية الأمريكية، بما في ذلك أفلام هوليوود والموسيقى والبرامج التلفزيونية الأمريكية، منتشرة في كافة أرجاء العالم. كما عززت اللغة الإنجليزية مكانتها باعتبارها لغة مشتركة للأعمال التجارية والاتصالات الدولية. ومع ذلك، يشير إطلاق مبادرة بريكسفون إلى احتمالية حدوث نقلة نوعية في عصرٍ يتسم بشكلٍ متزايد بالترابط والتبادل الثقافي، إذ تسعى هذه المبادرة إلى تضخيم أصوات الثقافات غير الغربية وتحدي السرد السائد وبناء مشهد ثقافي أكثر شمولًا ومتعدد الأقطاب. ويستكشف هذا المقال مبادرة بريكسفون ومدى قدرتها على إعادة تشكيل الحوار الثقافي العالمي وإعادة تعريف القوة الثقافية وتعزيز مشهد ثقافي أكثر تنوعًا وتمثيلًا.
يمثل صعود دول بريكس بثقافاتها المتنوعة وقوتها الاقتصادية تحديًا محتملًا للهيمنة الثقافية الغربية. وتشكل العديد من المبادرات مثل مبادرة بريكسفون التي تعمل على تعزيز التبادل الثقافي والتعاون بين الدول غير الغربية خطوات مهمة نحو خلق مشهد ثقافي متعدد الأقطاب.
وتهدف مبادرة بريكسفون إلى إنشاء مراكز ثقافية لدول بريكس داخل كل دولة عضو لتكون بمثابة مراكز لتعليم اللغات والتبادل الثقافي والحراك التعليمي فضلًا عن أن المبادرة ستعمل كمركز حيوي للتبادل الثقافي. وستقدم هذه المراكز برامج وأنشطة مختلفة تهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين دول بريكس، وسيكون تعليم اللغة حجر الزاوية في هذه المبادرة لتمكين مواطني كل دولة من تعلم لغات نظرائهم في تكتل بريكس. ولا يعدٌ هذا التبادل اللغوي خطوة عملية لتيسير التواصل فحسب، بل هو أيضًا أداة قوية للانغماس الثقافي وخلق التعاطف، حيث يمثل هذا المسعى الطموح خطوة مهمة نحو تعزيز العلاقات بين دول بريكس وربما إعادة تشكيل المشهد الثقافي العالمي، وبالتالي التحول بعيدًا عن هيمنة الثقافة الغربية.
وإلى جانب تعلم اللغة، ستكون المراكز الثقافية لدول بريكس بمثابة منصات للعديد من الفعاليات الثقافية والمعارض وورش العمل والندوات بحيث توفر هذه الأنشطة مسرحًا لعرض النسيج الغني والمتنوع للتقاليد والأشكال الفنية والموسيقى والسينما والأدب لكل دولة من دول المجموعة. ولن تقتصر هذه الأحداث والفعاليات على الترفيه والتثقيف فحسب، بل ستعزز أيضًا الشعور بالهوية المشتركة والارتباط الثقافي بين دول بريكس.
تتحدى مبادرة بريكسفون الهيمنة الثقافية الغربية التي طال أمدها وانتشرت عالميًا من خلال الاستعمار التاريخي وتستمر من خلال الأشكال الحديثة من التأثير الثقافي. ويتجلى هذا التأثير في الشعبية الواسعة التي تتمتع بها وسائل الإعلام الغربية وانتشار اللغة الإنجليزية والترويج للقيم الغربية كمعيارٍ عالمي. وقد كان لهذه الهيمنة تأثير كبير، حيث أدت إلى تهميش الثقافات المحلية وخلقت شعورًا بالتبعية والعزلة في العديد من البلدان من خلال تعريض شعوبها لوابلٍ من القصص والصور التي تعكس قيمًا وتجارب غريبة عليهم، وهو ما قد يؤدي إلى الشعور بعدم الأصالة أو الشعور بأن ثقافتهم أقل شأنًا.
ومع ذلك، تؤكد دول بريكس بشكلٍ متزايد على استقلالها الثقافي وتستفيد من نفوذها الاقتصادي والثقافي المتنامي. وتُعد مبادرة بريكسفون مظهرًا من مظاهر الرغبة في التحرر من هيمنة الثقافة الغربية وتعزيز مشهد ثقافي متعدد الأقطاب. ولا يسعى هذا التحول إلى العزلة عن الغرب، بل إلى تحقيق تبادل أكثر توازنًا واحترامًا لمختلف أشكال التعبير الثقافي، إذ كل ما تريده دول بريكس هو تقدير ثقافاتها على المسرح العالمي، وتوفر مبادرة بريكسفون منصةً لتحقيق ذلك. ومن خلال إنشاء مراكز ثقافية وتعزيز تعليم اللغات والتعاون بين دول التكتل، يمكن لهذه الدول إنشاء مشهد ثقافي أكثر شمولًا وتنوعًا، ما يثري حياة الملايين في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من أن مبادرة بريكسفون تحمل وعودًا كبيرة، فإنها تواجه العديد من التحديات الضخمة لأن تنسيق وتنفيذ برنامج للتبادل الثقافي واسع النطاق عبر عشرة بلدان مختلفة يتطلب توفير موارد مالية كبيرة والتزامًا طويل الأمد من كافة الدول الأعضاء فضلًا عن درجة عالية من الإرادة السياسية. كما ينبغي أيضًا إنشاء هياكل حوكمة فعالة للإشراف على المبادرة وضمان جودة واتساق البرامج عبر مختلف المراكز الثقافية لدول بريكس. بالإضافة إلى ذلك، فإن التنقل عبر المشهد الثقافي المعقد لكل دولة عضو ومعالجة الحساسيات المحتملة حول الهوية الوطنية والتمثيل الوطني سيتطلب تخطيطًا دقيقًا ولباقة دبلوماسية.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن العوائد المحتملة لبريكسفون كبيرة للغاية لأنه إذا نجحت هذه المبادرة، فإنها يمكن أن تعيد تشكيل المشهد الثقافي العالمي وتعزز تمثيلًا أكثر توازنًا وشمولًا لمختلف أشكال التعبير الثقافي. كما أنها من الممكن أن تمكن دول البريكس من إبراز قوتها الثقافية الناعمة على الصعيد العالمي ولعب دور أكثر بروزًا في تشكيل الخطاب العالمي، إذ يمكن أن تعزز تلك المبادرة حقبة جديدة من الحوار بين الثقافات وتحقق المزيد من التفاهم والاحترام المتبادل بين دول المجموعة وباقي دول العالم.
ختامًا، يمكن أن يكون لنجاح مبادرة بريكسفون تأثيرًا مضاعفًا من خلال إلهام الدول النامية الأخرى للاستثمار في مؤسساتها الثقافية وتعزيز التبادل الثقافي بين بلدان الجنوب، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تشكيل عالم ثقافي متعدد الأقطاب يُثريه تنوع التعبير البشري.
تعليقات