في هجوم منسق استهدف الضاحية الجنوبية للبنان -حيث يتمركز العديد من أعضاء حزب الله- وأجزاء من سوريا، انفجرت مئات من أجهزة النداء "البيجر " التي يستخدمها عناصر حزب الله اللبناني في وقت واحد، وتشير المؤشرات الأولية حتى تاريخ كتابة هذا التعليق أن الحادث تسبب في مقتل أكثر من اثني عشر شخصًا وإصابة الآلاف الآخرين.

 

وتُعرف إسرائيل بتاريخ طويل في تنفيذ هجمات خارج إطار القانون من الاغتيالات إلى الهجمات الإلكترونية ضد خصومها، كما أنه ليس غريبًا عليها تفخيخ هواتف أعدائها بالمتفجرات، حيث قتلت يحيى عياش، صانع القنابل في حماس، في عام 1996 بقنبلة في هاتفه محمول، لذلك يرجح أن هذه العملية حدثت عبر اختراق جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) لخطوط تصنيع هذه الأجهزة عبر دس بطاريات الليثيوم أيون أو غيرها لتلك النوعية من الأجهزة بشحنة متفجرات دقيقة

 

وثير العملية أسئلة جمة عن مدى صلابة أمن البنية التحتية للاتصالات الخاصة بالحزب، مما يستدعي النظر إلى الحادث بنظرة أعمق لتفكيك معانيها ودلالاتها من مدخل أمن الاتصالات التي يستخدمهما حزب الله أو غيره من جماعات المُمانعة في المنطقة أو حتى الجيوش النظامية في الشرق الأوسط.

الدوافع وراء الحادث

يتمثل أحد أهم الدوافع وراء هجوم البيجر ، في عزم الموساد استعادة زمام الردع، فقبل هجوم 7 أكتوبر، تمتعت المخابرات الإسرائيلية بسمعة قوية بين مثيلتها، وقد أدت حملة الاغتيالات التي شنتها إسرائيل حتى الآن إلى اغتيال نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في بيروت في الثاني من يناير، والقيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر في بيروت في أواخر يوليو، وذلك قبل فترة وجيزة من اغتيال اسماعيل هنية، أكسبت هذه العمليات المُتوالية أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أرضًا جديدة في صدد ضرب الثقة المُتبادلة بين قيادة حزب الله وعناصره، حيث أن الوصول إلى آلاف العناصر دفعة واحدة دون عمل عسكري، يعني أن تقصيرًا عميقًا من جانب قيادة الحزب دفعت تكلفته من دماء هذه العناصر.

 

كذلك رُبما تكون إسرائيل قد حققت أحد أهم أهدافها المُعلنة وهو تحييد القدرات القتالية لحزب الله، والتي تُمكنه من شن هجمات على الداخل الإسرائيلي، وذلك في ضوء تحذيرات الولايات المُتحدة المُتكررة من تنفيذ عملية واسعة النطاق داخل الأراضي اللبنانية، لذلك قد يكون هجوم أجهزة النداء بمثابة ضربة موجعة تضرب الثقة بين قيادة الحزب وعناصره تمهيدًا لشن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد الحزب، أو قد تكون مجرد أحدث حلقة في حرب الظل طويلة الأمد بين إسرائيل ووكلاء إيران.

دلالات الحادث

احتكار الغرب لتكنولوجيا الاتصالات

تشير الحادثة إلى نقطة حساسة فيما يتعلق بأمن الاتصالات والمعلومات، حيث نجد أن هذه الصناعة تتم عبر احتكار الشركات الغربية وهي الشركات الرائدة في هذه التقنية وخصوصاً في الاتصالات المشفرة، وبالتطبيق على حادثة انفجار أجهزة النداء التي انفجرت في لبنان وسوريا، نجد أن الشركة المصنعة BAC Consulting KFT ومقرها في بودابست -استخدمت العلامة التجارية لأبولو جولد التايوانية- وبالنظر بشكل أكثر عمقاً نجد ان اغلب هذه الشركات مجرد واجهات استخباراتية لأجهزة دول بعينها، حيث تأسست هذه الشركة فقط في عام ٢٠٢٢، ولعل التاريخ يعيد نفسه عند النظر إلى الشواهد المماثلة حين استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) شركة تشفير سويسرية “كريبتو إي جي” الرائدة عالميا في مجال صناعة أجهزة التشفير، والمملوكة سرًا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية والمخابرات الألمانية كواجهة للتجسس على المراسلات الحكومية السرية لما يربو على مئة دولة عدو وحليف للولايات المتحدة على مدى عقود حيث عملت هذه الشركة على توفير أجهزة الاتصال المشفر وجمعت من خلالها المعلومات الحساسة أبرزها مراقبة أزمة احتجاز الرهائن بالسفارة الأميركية في طهران عام 1979، وتزويد بريطانيا بمعلومات عن تحرك الجيش الأرجنتيني إبان حرب فوكلاند، ومتابعة حملات الاغتيال بأميركا اللاتينية ضمن أحداث أخرى عديدة، ما سيعزز عدم الثقة فيما يصدره الغرب للمنطقة مما يستدعي السعي للبحث عن بدائل أكثر ثقة ومصداقية.

 

البدائية هي الحل

يعود النهج البدائي في الاتصالات إلى نظام استخدمته حماس في سنواتها الأولى، والذي تبناه رئيس المكتب السياسي للحركة يحي السنوار عندما اعتقل في عام 1988 أثناء وجودهم في السجون الإسرائيلية، حيث تمكن في غزة من إنشاء نظام اتصالات يتغلب على جمع المعلومات الاستخباراتية الحديثة.

 

إذ يقوم السنوار بكتابة رسالة بخط اليد أولاً ومن ثم تُمرر إلى عضو موثوق به في حماس ينقلها على طول سلسلة من الرسل، وغالبا ما تكون الرسائل مشفرة، برموز مختلفة لمستلمين مختلفين في ظروف وأوقات مختلفة. لتصل الرسالة بعد ذلك إلى وسيط داخل غزة أو إلى أحد عناصر حماس الآخرين الذين يستخدمون الهاتف أو أي وسيلة أخرى لإرسالها إلى أعضاء الجماعة في الخارج.

 

لولا نظام السنوار البدائي الخالي من التقنية لم يكن ليظل حيا حتى يومنا هذا حيث يتجنب السنوار، إلى حد كبير، المكالمات الهاتفية والرسائل النصية وغيرها من الاتصالات الإلكترونية التي يمكن لإسرائيل تعقبها، والتي أودت بحياة قادة آخرين للفصائل المسلحة. وبالتالي أصبحت أساليب اتصالات السنوار أكثر حذرًا وتعقيدًا.

نتائج الهجوم

تشير المؤشرات الأولية أن الهجوم ضرب تراتبية نظام القيادة والسيطرة الخاص بالحزب في لبنان، وخاصة بعد أن اعتمد حزب الله على وسائل اتصالات قديمة مثل أجهزة النداء، ربما معتقدًا أنها كانت بعيدة عن الاختراق السيبراني. ففي أعقاب هجوم 7 أكتوبر، سعى أفراد حزب الله قر المُستطاع إلى تجنب استخدام الهواتف المحمولة، بعد تحذيرات الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه المتلفز في 13 فبراير 2024 للمقاتلين بضرورة استخدام طرق اتصال بديلة بدلاً من الهواتف المحمولة، رداً على مقتل نحو 170 مقاتلاً في ضربات إسرائيلية مستهدفة على لبنان، بما في ذلك صالح العاروري في بيروت لأن إسرائيل تستطيع اكتشافها واستهدافها بسهولة. لذلك، أصبحت أجهزة النداء جهاز الرسائل المفضل داخل الحزب.

 

 و ربما كان الهجوم مصمماً أيضاً لإحداث الذعر داخل الجبهة الداخلية اللبنانية، التي لا تدعم مكونات عديدة منها حزب الله، نظراً للانقسامات السياسية في البلاد فمنذ هجمات حماس في السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل، أشارت القيادة الإسرائيلية إلي أنها عازمة على إزالة التهديد الذي يشكله حزب الله، الذي عمل تضامناً مع حماس فقبل ساعات من هجوم أجهزة النداء، أوضحت حكومة نتنياهو أن أهداف الحرب الإسرائيلية أنها سوف تتوسع في عودة عشرات الآلاف من السكان إلى منازلهم في شمال إسرائيل، والتي فروا منها بسبب إطلاق الصواريخ المستمر من حزب الله، وقد تكون الانفجارات المتزامنة لأجهزة النداء، مقدمة لهجوم إسرائيلي شامل ضد حزب الله.

 

ختاما، يظهر الهجوم الجماعي على أجهزة النداء لحزب الله أن إسرائيل قادرة على الوصول إليه في أي وقت وفي أي مكان، وقد تكون انفجارات أجهزة النداء خطوة نحو تصعيد أوسع، وخاصة بعد الهجوم الكبير الذي شنه الإسرائيليون الأسبوع الماضي على سوريا أسفر عن مقتل 18 شخصًا، وإطلاق الحوثيون في اليمن صاروخًا فرط صوتي على إسرائيل، مما يشعر الإسرائيليون بأن هناك تصعيدًا يجري خارج لبنان وعلى جميع مسارح محور المقاومة في وقت واحد، وأن هذه الفترة قد تكون تاريخية لتدمير قدرات حزب الله.

 

ومن المرجح أن يتبع حزب الله هذا الهجوم بإصلاح شامل لجهازه الأمني ​​الداخلي، ومراجعة الثغرات في أمنه التشغيلي ومحاولة دعم حرفية أعضائه. قد يكون هناك حتى تطهير داخلي للحزب من المتآمرين والجواسيس، وهو مطاردة يمكن أن تؤدي إلى إراقة دماء داخل حزب الله – وهي مكافأة إضافية لأجهزة المخابرات الإسرائيلية.

 

كما سيبدأ الحوثيون في اليمن، والجماعات المسلحة في العراق وسوريا، وغيرهم من وكلاء إيران الآن في اتخاذ احتياطات أكبر. وهذا من شأنه أن يغير الطريقة التي تتواصل بها هذه المجموعات مع بعضها البعض، وهو ما قد يؤثر بدوره بشكل مباشر على التنسيق ويعيق قدرتها على شن هجمات خاصة بها. وسوف يشعر بالتأثير أبعد من لبنان، مع تشكيك الجماعات الأخرى في جميع أنحاء العالم في سلامة أجهزة الاتصالات الشخصية الخاصة بهم مما يجعل الشرق هو الواجهة الأقرب لهم للحصول على هذه التكنولوجيا.

تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *