تنعقد القمة العربية الطارئة المرتقبة في القاهرة يوم 4 مارس 2025، في ظل تنديد إقليمي وعالمي واسع النطاق باقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يسعى إلى "السيطرة" على قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" – على حد زعمه- مع إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى. و على الرغم من عدم واقعية الطرح المثير للجدل. إلا أنه حفز الدول العربية على الدعوة لعقد اجتماع قد يكون مشحونًا بالتوتر ومليئًا بالفرص في الوقت ذاته، فقد أدى الاقتراح إلى الشعور بحالة من عدم اليقين تلقي بظلالها على مفاوضات وقف إطلاق النار الحساسة بين إسرائيل و"حماس"، وتزايدت المخاوف من أن يقوض هذا الطرح المناقشات حول المرحلة الثانية من الهدنة، التي تهدف إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ خمسة عشر شهرًا.
وتتولى القاهرة مسؤولية استضافة هذه القمة في وقت حرج، حيث ستختبر مدى تماسك التضامن العربي وتكشف النقاط الضعيفة في منطقة تعيش دائمًا على حافة الاضطراب. ولا تقتصر مساعي القمة على معالجة القضية الفلسطينية فحسب، بل تتعلق أيضًا بمواجهة التجاهل الصارخ لحقوق الفلسطينيين والمناورات التي تهدد الاستقرار الإقليمي.
الهدف الرئيسي لعقد هذه القمة واضح ويتمثل في بناء جبهة عربية موحدة ضد أجندة التهجير، والأهم من ذلك، إعادة تأكيد الالتزام الجماعي بالقضية الفلسطينية. ومع ذلك، يظل مفهوم "الوحدة العربية" إشكاليًا تاريخيًا، حيث كان في كثير من الأحيان أقرب إلى الطموح منه إلى الواقع. فقد كشفت القمم السابقة عن انقسامات عميقة وتباين جلي في المصالح الوطنية، مما جعل تحقيق عمل مشترك أمرًا بعيد المنال. يتعين على القاهرة أن تتجاوز هذه الانقسامات، مستفيدةً من الغضب الملموس إزاء مقترح التهجير لصياغة توافق حقيقي، ولا يكمن التحدي في صياغة موقف موحد فحسب، بل في ضمان تنفيذه فعليًا، بحيث يتحول التضامن الخطابي إلى أفعال ملموسة. كما ستكون هذه القمة اختبارًا حاسمًا لمدى فاعلية الجامعة العربية وقدرتها على العمل كقوة متماسكة في مواجهة الضغوط الخارجية والانقسامات الداخلية، بينما يلوح في الأفق شبح الإخفاقات السابقة، مما يستوجب تحولًا واضحًا من إصدار البيانات الرمزية إلى نتائج ملموسة.
لا شك أن الدافع لهذه القمة الطارئة هو الاقتراح المثير للجدل الصادر من واشنطن، والذي يهدف فعليًا إلى إفراغ غزة من سكانها الفلسطينيين وتحويلها إلى ما يُشبه “ريفييرا الشرق الأوسط”. هذا المخطط الغير واقعي، الذي يقترح نقل سكان بأكملهم إلى أراضٍ مجاورة، وتحديدًا إلى مصر والأردن، قوبل بإدانة فورية وقاطعة، كما كان متوقعًا. إن مجرد التفكير في التهجير الجماعي للفلسطينيين لا يُشكل فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ولأبسط معايير الكرامة الإنسانية، بل يعكس أيضًا سوء تقدير عميق للوزن التاريخي والعاطفي والسياسي الذي تحمله القضية الفلسطينية في الوجدان العربي. هذا الاقتراح، الذي يُعتبر أمرًا مفروضًا، يكشف عن استخفاف خطير بإرادة الفلسطينيين وكرامتهم، حيث يتعامل معهم كمجرد أوراق في لعبة جيوسياسية. إنه ليس مجرد اقتراح غير عملي، بل إنه مفلس أخلاقيًا وخطير سياسيًا، إذ يعيد إحياء جراح النكبة، ويؤجج حالة عدم الاستقرار التي يدّعي الساعون إليه أنهم يحاولون معالجتها.
في حين أن إحباط مخطط التهجير يظل أولوية قصوى، فإن جدول أعمال القمة يمتد ليشمل مجموعة من القضايا المترابطة، التي تدور جميعها حول الأزمة المركزية: فلسطين. فمستقبل غزة ذاته على المحك، ويجب أن تتطرق المناقشات إلى المسألة الحاسمة المتعلقة بالحكم وإعادة الإعمار: هل ستحتفظ “حماس” بسيطرتها، أم ستعيد السلطة الفلسطينية بسط نفوذها؟ كيف ستتم إعادة بناء القطاع، ومن سيتحمل التكلفة؟ هذه ليست مجرد قضايا لوجستية، بل هي مسائل سياسية جوهرية تمس شرعية التمثيل الفلسطيني وإمكانية استمرار أي عملية سلام على المدى الطويل. علاوة على ذلك، لا شك أن حل الدولتين، الذي يبدو محتضرًا، سيعاد طرحه، ولو بشكل رمزي. وفي حين أن العديد من المراقبين قد ينظرون إليه بعين السخرية، بالنظر إلى الحقائق الحالية على الأرض، فإن إعادة تأكيد الالتزام بهذا الإطار يظل بالنسبة للقادة العرب موقفًا دبلوماسيًا ضروريًا. وفيما وراء هذه المخاوف المباشرة، تكمن القضية الشاملة المتمثلة في الاستقرار الإقليمي. فأي إجراء أحادي الجانب، لا سيما إذا كان بحجم التهجير الجماعي، ينطوي على خطر تأجيج اضطرابات أوسع قد تتجاوز حدود غزة وإسرائيل وفلسطين. ويجب على القمة أن تواجه هذه التداعيات المتشابكة، ساعيةً إلى احتواء آثارها ومنع اندلاع أزمة إقليمية أوسع نطاقًا.
تحمل القمة التي ستنعقد في القاهرة آمالًا كبيرة، لكن الطريق إلى الأمام يكتنفه كثير من الغموض. وفي أفضل السيناريوهات، قد تتمكن القمة من ترسيخ موقف عربي موحد، ليس فقط ضد التهجير، بل من أجل التعامل الاستباقي مع القضية الفلسطينية. ويمكن أن يتجسد ذلك في طرح بدائل ملموسة للمقترح الأمريكي، ربما عبر خطة شاملة لإعادة إعمار غزة والمناطق المتضررة الأخرى، على أساس حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم دون أي عمليات ترحيل قسري. يمكن لمصر، بصفتها لاعبًا إقليميًا محوريًا، أن تستغل نفوذها لحشد دعم دولي، بالتنسيق مع الدول التي تشاركها مخاوفها بشأن التحركات الأمريكية الأحادية. لكن السيناريو المتشائم يظل قائمًا. فقد تتحول القمة إلى مجرد استعراض دبلوماسي، تفرز بيانات قوية لكنها تفتقر إلى إجراءات ملموسة، كما أن الانقسامات داخل العالم العربي قد تطفو على السطح مجددًا، مما يُضعِف أي جبهة موحدة. علاوة على ذلك، قد تصر الإدارة الأمريكية، رغم الإدانة الواسعة، على المضي قدمًا في أجندتها المزعزعة للاستقرار، تاركةً الدول العربية في موقع رد الفعل بدلًا من اتخاذ خطوات استباقية. يتوقف نجاح القمة على تجاوز الخطاب التقليدي، وتبني نهج عملي موحد قادر على مواجهة العواصف الجيوسياسية المقبلة.
لا شك أن التداعيات الجيوسياسية لقمة القاهرة عميقة وبعيدة المدى. فعلى المدى القريب، ستؤدي قطعًا إلى توتر العلاقات الأمريكية-العربية الحساسة بالفعل، خاصةً إذا واصلت واشنطن دعم مخطط التهجير. أما بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة، تمثل القمة خطوة ضرورية لإظهار حدود امتثالهم لإملاءات السياسة الخارجية الأمريكية. ومن المفارقات أن هذا التحدي قد يسهم في تعزيز الوحدة الإقليمية، حيث تجد الدول العربية أرضية مشتركة في مواجهة الضغوط الخارجية. كما أن مخرجات القمة سيكون لها تأثير كبير على مسار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؛ إذ قد يَمنح موقف عربي قوي وموحد، يدافع عن حل الدولتين وحقوق الفلسطينيين، زخمًا جديدًا لجهود السلام المتعثرة، مهما بدا ذلك غير مرجح في الوقت الراهن. وعلى العكس، فإن الاستجابة الضعيفة أو المنقسمة قد تشجع المواقف المتشددة وتزيد من ترسيخ حالة الجمود الحالية. لذا، فالقمة ليست مجرد اجتماع إقليمي، بل حدث جيوسياسي يحمل القدرة على إعادة تشكيل التحالفات، وإعادة تعريف التوازنات الإقليمية، وتحديد المسار المستقبلي لأحد أكثر النزاعات استعصاءً في العالم.
خلاصة القول، تمثل القمة العربية الطارئة في القاهرة لحظة مفصلية. فهي تأتي ردًا على مقترح وخطير، لكنها في الوقت ذاته تشكل فرصة، وإن كانت وليدة أزمة، لإعادة تأكيد التضامن العربي ورسم مسار نحو مستقبل أكثر عدلًا واستدامة لفلسطين. التحديات هائلة، والرهانات مرتفعة، والطريق مليء بالعقبات. ومع ذلك، في مواجهة التهجير واليأس، توفر القمة حصنًا هشًا، ومنبرًا للمطالبة بالكرامة، وإثبات الإرادة، والسعي الجماعي لتجاوز التعقيدات السياسية الإقليمية. العالم يترقب، منتظرًا أن يرى ما إذا كانت القاهرة ستبقى مجرد ساحة للنقاش، أم تتحول إلى بوتقة للفعل الحاسم، تصوغ الوحدة من الانقسام، وتبعث الأمل في أحلك لحظات اليأس.
تعليقات