بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين، لا يزال الانقسام السياسي يلاحق ألمانيا، متتبعًا حدود الماضي بين شرقها وغربها. على الجانب الشرقي ظلت الحرارة السياسية تتصاعد طوال العام من الائتلاف الحاكم، إلى أن وصلت إلى درجة الغليان في الانتخابات المحلية. ففي الأول من سبتمبر 2024 سجل حزب البديل لألمانيا لأول مرة في تاريخه نجاحاً لافتاً في الانتخابات المحلية بولايتي ساكسونيا وتورينجيا- شرق ألمانيا- في ولاية تورينجيا الشرقية، ظهر كأقوى حزب بحوالي 33٪ من الأصوات. في ولاية ساكسونيا المجاورة، جاء في المرتبة الثانية بحوالي 30٪ - خلف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم من يمين الوسط. رغم التحذيرات المتكررة من كونه حزباً متطرفاً، بل ونازياً، مستغلاً انعدام ثقة الشرق في الائتلاف الحاكم ليملأ الفراغ، ويعزز مكانته في بلدات الشرق على المستوى المحلي كاستراتيجية أكبر للتوسع إلى أعلى مستويات الحكومة الوطنية، معتمداً على أن هيمنته المحلية ستعمل على تطبيعه رغم تطرفه. فكيف ستؤثر نتائج الانتخابات المحلية على الوضع السياسي في ألمانيا؟
تحمل الانتخابات المحلية التي تعقد كل خمس سنوات وزنًا كبير في ألمانيا، والتي تتكون من ست عشرة ولاية لها برلماناتها ورؤساء وزرائها ووزراءها. ورغم أنها لا تؤثر بشكل مباشر على السياسة الخارجية، فإنها تشكل البوندسرات، وهي غرفة منفصلة في البرلمان، يمكن من خلالها نقض القوانين.
وبحسب نتائج الانتخابات المحلية، فإن الأحزاب الثلاثة التي تشكل الائتلاف الحاكم – الديمقراطيون الاجتماعيون، والخضر، والديمقراطيون الأحرار – قد لا تتمكن من دخول البرلمانات المحلية، حيث تكاد تجتاز عتبة 5%. وفي الوقت نفسه، يتمتع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، الذي قادته أنجيلا ميركل لسنوات عديدة، بدعم قياسي بلغ 30%. ويحظى حزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي اليميني المتطرف، الذي يوصف غالبا بأنه قريب من النازية الجديدة، بنسبة 32%، وتحصل كتلة سارة فاجنكنيخت الشعبوية اليسارية على 15%. مما يشير إلى أن توجه العديد من ناخبي شرق ألمانيا نحو اليمين واليسار المتطرف يكشف عن أزمة ثقة عميقة في الأحزاب والمؤسسات الرئيسية.
من ناحية أخرى، فنتائج هذه الانتخابات ليست مهمة فقط بالنسبة لتورينجيا وساكسونيا. بل ستكون اختبارًا لقياس الرأي العام للائتلاف الحاكم قبل عام من الانتخابات الاتحادية، حيث لقي اليمين واليسار المتطرف قبولاً شعبياً في المقاطعتين الواقعتين شرقاً على خلفية انتقادهما للسياسات الحكومة في برلين.
تنتقد الأحزاب الشعبوية كل جانب تقريبا من جوانب عمل الائتلاف الحاكم، وخاصة فيما يتعلق بسياسات الهجرة و الاقتصاد والدعم العسكري لأوكرانيا.
فعلى الرغم من توصل ائتلاف المستشار شولتز إلى اتفاق مبدئي بشأن ميزانية 2025 بعد أسابيع من المفاوضات الصعبة، إلا أن الخلافات لا تزال قائمة حول حجم الدعم العسكري الذي تقدمه الحكومة الألمانية لأوكرانيا، التي تسعى جاهدة لضبط ميزانيتها، و لا تنوي تجاوز سقف 8 مليارات يورو المخصصة لأوكرانيا في ميزانية 2024، مع 4 مليارات يورو إضافية مقررة لعام 2025 و 3 مليارات يورو لعام 2026. في المقابل، يطالب مؤيدو زيادة الدعم، ومن بينهم وزير الدفاع بيستوريوس، بتمويل إضافي لضمان انتصار أوكرانيا في الحرب حيث أقترح تخصيص 3.8 مليار يورو إضافية، بالإضافة إلى الميزانية الحالية لعام 2024، لتمويل إمدادات عسكرية لأوكرانيا. لكن وزير المالية ليندنر رفض هذا الاقتراح، مصراً على أن أي تمويل إضافي لأوكرانيا يجب أن يأتي من الأداة المستقبلية التي أنشأتها مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي، والتي لن تكون متاحة قبل عام 2025 على أقرب تقدير. في الوقت نفسه، يواجه قرار شولتز بالسماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الألمانية لضرب الأراضي الروسية انتقادات داخل حزبه، حيث يثير هذا القرار مخاوف أمنية قبيل الانتخابات الاتحادية.
كما اكتسبت قضية الهجرة زخمًا جديدًا بعد هجوم إرهابي في زولينغن، حيث قتل رجل مسلح بسكين ثلاثة أشخاص وأصاب ثمانية آخرين. وكان المهاجم مواطنًا سوريًا يبلغ من العمر 26 عاما، ويزعم إنه مرتبط بجماعة داعش الإرهابية. وعلى الرغم من أنه كان مقررًا ترحيله العام الماضي، لم تتمكن السلطات من تحديد مكانه في مأوى اللاجئين حيث كان من المفترض أن ينتظر القرار. وسبق أن دعا زعيم المعارضة فريدريش ميرز من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى ضرورة وضع قواعد ترحيل أكثر صرامة، ومراجعة قوانين الأسلحة، وحظر كامل على قبول اللاجئين من سوريا وأفغانستان. ومع ذلك، يعارض المستشار أولاف شولتز مثل هذه الحظر.
وهو ما استغلته الأحزاب الشعبوية في حملتها الانتخابية حيث جعل حزب البديل لألمانيا الصراع في أوكرانيا جزءًا كبيرًا من حملته الانتخابية، داعيًا إلى مفاوضات السلام وإنهاء تسليم الأسلحة.
أصبحت ألمانيا في ظل الائتلاف الحاكم ثاني أكبر مورد للمساعدات العسكرية لأوكرانيا في العالم، بعد الولايات المتحدة. حيث سبق أن وافقت ألمانيا على توريد دبابات ليوبارد 2 القتالية الرئيسية إلى أوكرانيا في يناير 2023. وهو ما يراه الحزب البديل “تصعيد إضافي للصراع” نحو “حرب عالمية ثالثة”.
ويخشى العديد من الألمان أن تمتد الحرب وتؤثر عليهم بشكل مباشر. ففي استطلاع أجرته مؤسسة إنسا لاستطلاعات الرأي في أواخر أغسطس، قال 45 % من المستجيبين إنهم إما “خائفون جدًا” أو “تمامًا” من مثل هذا التصعيد. كانت النسبة أعلى عند 55 % في ألمانيا الشرقية، حيث لا تزال ذكريات الحرب الباردة تلوح في الأفق. و عندما زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي برلين لإلقاء خطاب أمام البرلمان الألماني، قاطع كل من حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب العمال من أجل ألمانيا الحدث. فمع الصعود المطرد لحزب البديل من أجل ألمانيا، فإن موقف ألمانيا كقاطرة للدعم الأوروبي لأوكرانيا يتعرض لتحدي نشط من قبل مجموعة شعبية متزايدة ومؤيدة لروسيا.
يتمتع حزب البديل لألمانيا بتاريخ موثق جيداً من الروابط مع روسيا وقد أسس موطئ قدم في أجزاء من ألمانيا الشرقية السابقة. فهو مثل الأحزاب اليمينية المتطرفة الشعبوية والقومية المتطرفة الأخرى في أوروبا التي عارضت دعم حكوماتها لأوكرانيا ودعت إلى التوصل لاتفاق مع روسيا، حيث سعي حزب البديل من أجل ألمانيا إلى التقارب مع روسيا قبل فترة طويلة من بدء الغزو الكامل.
فقبل فبراير 2022، لم يبذل الحزب أي جهود لإخفاء علاقاته الدافئة مع روسيا. حيث زار زعيما الحزب تينو شروبالا وأليس فايدل روسيا في عامي 2020 و2021 على التوالي. كما زار عضو البرلمان عن حزب البديل من أجل ألمانيا ماركوس بريتزل شبه جزيرة القرم، كما زار عضو برلمان آخر، ستيفان كويتر، روسيا كمراقب للانتخابات في عام 2018. في مايو 2023، حضر شروبالا حفل استقبال في السفارة الروسية للاحتفال بـ “يوم النصر” في روسيا. زعم شروبالا أنه حضر الحدث لأنه “لا ينبغي السماح للحوار بالانهيار في أوقات الأزمات”.
كما تضمنت حملة حزب البديل من أجل ألمانيا في تورينجيا شعار “الدبلوماسية بدلاً من الأسلحة”، في إشارة إلى موقف ألمانيا باعتبارها ثاني أكبر مورد للمساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة.
ختاماً، يخشى البعض من أن يؤدي استمرار نمو حزب البديل من أجل ألمانيا إلى نمو شعبيته على المستوى المحلي، مما يساعده على في تنمية قاعدته الانتخابية وتحقيق المزيد من النجاح في الانتخابات الفيدرالية. ومن ثم تقويض الديمقراطية في ألمانيا، تماماً كما فعلت الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة مؤخراً في ديمقراطيات أخرى في أوروبا وبقية العالم.
مسترشدين بأوجه التشابه بين صعود حزب البديل لألمانيا وصعود الاشتراكيين الوطنيين بقيادة أدولف هتلر في أواخر عشرينيات القرن العشرين. حين تمكن حزب هتلر، الحزب الوطني الاشتراكي الألماني، من المشاركة في الحكومة لأول مرة في ولاية تورينجيا في عام 1929. ثم بدأ الحزب الوطني الاشتراكي الألماني أول عمليات التطهير للخدمة المدنية وشغل المناصب المهمة بأعضاء حزبه. في ظل تصريحات ساسة الحزب البديل البارزون إنهم يريدون رؤية تغييرات هائلة في السياسة الألمانية وهو ما قد يصب في مصلحة روسيا.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات