في مايو 2024، عقد معهد العلاقات الاقتصادية الدولية ورشة عمل حول الأمن والاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث ركزت الورشة على مجموعةٍ من القضايا الحاسمة المتعلقة بالأمن والاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط والتي لا تزال تهيمن على جداول أعمال المساعي الإقليمية والدولية. وشملت مواضيع المناقشات الصراع بين إسرائيل وحماس، والتوترات في الشرق الأوسط الكبير، والتطورات الأخيرة في تركيا وإيران، وأحداث العنف المستمرة في سوريا والعراق وليبيا، فضلًا عن أزمتي الهجرة واللاجئين. كما تطرقت الورشة أيضًا لدور القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تظل منطقة حاسمة لمستقبل علاقة الاتحاد الأوروبي بدول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. وكان هدف الورشة مناقشة وتحليل الصراعات السياسية الجارية في المنطقة الأورومتوسطية واستكشاف السبل الممكنة لتحقيق السلام والاستقرار.
وخلال هذه الورشة، قدمت الباحثة حبيبة ضياء الدين – الباحثة في مركز الحبتور للأبحاث – ورقةً بحثية حول السياسات الأوروبية وصعود اليمين المتطرف وتأثيرها على الهجرة والجغرافيا السياسية والوضع الإنساني في حوض البحر الأبيض المتوسط. وهدفت هذه الورقة لتقييم سياسات الهجرة الأوروبية، وتحديدًا الميثاق الجديد بشأن الهجرة واللجوء، باستخدام معايير "نجاح السياسة" التي وُضعت لهذا الغرض، حيث تشمل هذه المعايير تقييمات تعتمد على القيم والتكلفة الاقتصادية وتحقيق الأهداف والتكلفة السياسية.
وطوال ورشة العمل تلك التي استمرت على مدار ثلاثة أيام، دخل المشاركون في مناقشاتٍ حول عدة مواضيع تتعلق بالموضوع الرئيسي للورشة.
في هذه الجلسة، قُدمت ثلاث أوراق بحثية تناولت تأثير الحربين على منطقة البحر الأبيض المتوسط من زوايا مختلفة. وبدايةً، أشارت الورقة الأولى بعنوان “التصورات الخاطئة والحرب: إسرائيل، أسباب وعواقب حرب غزة” إلى أن هجمات 7 أكتوبر وقعت بسبب سوء فهم صناع القرار الإسرائيلي لنوايا حماس، خاصةً بعد اتباع نمط خاطئ من الردع. وأشارت الورقة الثانية التي ركزت على الأحزاب الشعبوية في إسبانيا، ولا سيما رد فعل حزب يونيداس بوديموس على الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى أن الأحزاب الشعبوية تميل إلى تخفيف حدة خطابها بمجرد وصولها إلى السلطة وتؤثر على المواقف الأوروبية والمواقف المؤيدة للغرب وقضايا السياسة الخارجية مثل الحرب بين إسرائيل وحماس من خلال توجيه السياسة الخارجية. ومن خلال نقل المناقشة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أشارت الورقة الثالثة بعنوان “جلب حقبة جديدة من الإصلاحات الأمنية لحلف شمال الأطلسي: حالة الحرب الأوكرانية وتأثيرها على منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط” إلى أن عواقب الغزو الروسي في أوكرانيا بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط سلطت الضوء على مدى الحاجة إلى إصلاح الناتو وأنه أمر لا مفر منه.
ركزت هذه الجلسة بشكلٍ مميز على مستقبل السياسة الأوروبية في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل وغرب أفريقيا في أعقاب إستراتيجية الاتحاد الأوروبي حيال منطقة الساحل لعام 2021 بالإضافة إلى المفهوم الإستراتيجي للناتو لعام 2022. وناقشت الجلسة هذه القضية من خلال ثلاثة محاور رئيسية بهدف تأطير التحليل وتتمثل في الجغرافيا السياسية وتنافس القوى العظمى والتهديدات الهجينة. وكانت الحجة الرئيسية في هذه الجلسة هي أن فكرة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عفا عليها الزمن بالفعل لأسبابٍ عديدة منها صعوبات التعاون بين دول المنطقة لأنه لم يعد من الممكن بعد الآن فصل غرب أفريقيا جيوسياسيا عن شمال أفريقيا والساحل، وأخيرا، الوجود المتزايد للقوى العظمى مثل روسيا والصين في المنطقة.
في هذه الجلسة، تناولت الأوراق البحثية هذا الموضوع من وجهات نظر مختلفة، حيث ركزت إحدى الأوراق البحثية على الهجرات الأفريقية إلى الغرب في فترة ما بعد الاستعمار، قائلة إن هذه الحركة المكانية لا يحركها البحث عن الأمن الجسدي والمادي فحسب، بل أيضًا الرغبة في تقليد الغرب و”تبييض” الذات في مواجهة إرث العبودية والاستعمار والهيمنة الغربية. وأعادت ورقة بحثية أخرى النظر في الهجرة البديلة كأداةٍ للمرونة الديموغرافية، وناقشت الفوائد المحتملة للهجرة من المناطق المكتظة بالسكان مثل بلدان شمال أفريقيا إلى أوروبا التي تواجه تحديًا يتمثل في شيخوخة السكان. واختُتمت الجلسة بمناقشة ورقة تتناول تأثير أزمة اللاجئين عام 2015 على الأمن البشري في الاتحاد الأوروبي، مع التركيز على التهديدات الفعلية الناتجة عن سوء إدارة قضايا اللاجئين والمهاجرين من قبل الجهات الفاعلة الوطنية وفوق الوطنية.
عقب تقديم ورقة بحثية تطرح سبل التوفيق بين متطلبات أمن الدولة وأمن الإنسان في مواجهة الهجرة غير الشرعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، انخرط المشاركون في نقاشٍ حول الطريقة التي ترى بها الدول أنها تتمتع بالحق السيادي في الدفاع عن حدودها البحرية، بينما على الجانب الآخر يرى المدافعون عن حقوق الإنسان أن المهاجرين غير الشرعيين يحتاجون إلى الدول لإنقاذهم. وبعد هذه المناقشة، قُدمت ورقة بحثية أخرى حول صعود الأحزاب المناهضة للهجرة في كل من تركيا واليونان مع التركيز على الاستراتيجيات السياسية والأيديولوجيات والآثار المترتبة لقيام هذه الأحزاب بهدف تسليط الضوء على التفاعل بين انعدام الأمن الاقتصادي والتوتر الاجتماعي والهجرة. وواصلت بقية الجلسة مناقشة الورقة التي تركز على سياسات الهجرة في الاتحاد الأوروبي وتأثيرها على الجغرافيا السياسية والاقتصاد والوضع الإنساني في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
شهدت الجلسة الأخيرة من ورشة العمل عقد حلقة حوار حول دور تركيا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لا سيما في ضوء الحرب المستمرة في غزة، حيث تناول الحاضرون كيف يمكن للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستفادة من الوضع الحالي لتعزيز نفوذ بلاده في المنطقة. كما تطرقت المناقشات أيضًا إلى العلاقة بين تركيا وإيران، وسلطت إحدى الأوراق المقدمة الضوء على العلاقة الثنائية الفريدة والمعقدة بين البلدين والتي تتميز بـ “التعاون المتضارب”، حيث يتعاون البلدان في بعض المجالات بينما يتنافسان في مجالات أخرى. وقد وصل هذا التضارب إلى أقصى ذروته مع بداية الحرب بين إسرائيل وحماس إذ يدين كلا البلدين إسرائيل في خطاباتهما الرسمية، لكنهما يختلفان في أساليبهما لمساعدة الفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، تواصل إيران انتقاد تركيا لحفاظها على علاقاتها التجارية مع إسرائيل وسماحها بنقل النفط الأذربيجاني إلى الدولة اليهودية.
قدمت ورشة العمل تحليلًا شاملًا للقضايا الملحة التي تؤثر على المنطقة، حيث سلطت المناقشات الضوء على الطبيعة متعددة الأوجه للتحديات الأمنية بما في ذلك الصراعات الجيوسياسية وأزمات الهجرة والأدوار المتطورة للقوى العالمية والإقليمية. وقد انبثقت رؤى رئيسية من الجلسات حول التقييم النقدي لسياسات الهجرة الأوروبية وصعود التأثيرات اليمينية المتطرفة والتي تؤثر على المشهد الإنساني والجيوسياسي. وأوضح النقاش حول آثار الحرب بين إسرائيل وحماس والحرب بين روسيا وأوكرانيا مدى الترابط بين الصراعات الإقليمية وضرورة إصلاح الناتو. كما أن المناقشات حول المغرب الكبير أكدت على تقادم المفهوم التقليدي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وضرورة اتباع نهج أكثر تكاملًا في التعامل مع شمال وغرب أفريقيا ومنطقة الساحل مع الأخذ في الاعتبار المشاركة المتزايدة للقوى العالمية مثل روسيا والصين. علاوة على ذلك، كشفت مناقشات أزمة اللاجئين والهجرة عن الدوافع المعقدة وراء الهجرة وإمكانية المرونة الديموغرافية من خلال الهجرة البديلة مع التشديد على أهمية الإدارة الفعالة لحماية الأمن البشري. وأخيرًا، سلطت حلقة الحوار حول دور تركيا الضوء على المناورات الإستراتيجية التي تقوم بها تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط وسط الصراعات المستمرة، ولا سيما علاقتها غير العادية مع إيران. وبشكلٍ عام، عززت ورشة العمل فهمًا عميقًا للقضايا الديناميكية في منطقة البحر الأبيض المتوسط ودعت إلى تبني نهج تعاوني ومستنير لتحقيق السلام والاستقرار الإقليمي.
تعليقات